الحدث- علاء صبيحات
الصمت هوَ هوَ والغِلُّ تعشّش، نصفه الشيطاني يفرض عليه الرحيل رغم المليار مستحيل (لو بموت بدي أطلع) هذا كان هاجسه الوحيد، لقد انفجرت هامته هناك حيث الموت يتربص عقرب الثواني، فلا آمال تُبنى ولا حياة وردية ولا أحلام.
غزة هي المكان الوحيد الذي لا تتغير فيه الأحلام بين الميت والحي والنائم، ذلك الغزاوي صديق عزرائيل الذي لم يأتمنه يوما على أهله أو أصدقائه لا في منامه ولا في حياته وبالطبع ليس في مماته، حتى صار واقعه المكتظ بالطرديِّات يحكم حتى قرار دخوله المرحاض.
يزداد المغص طرديا مع آخر نبأ سياسي، فكلما استجد أمر سياسي وبُث على شاشات التلفاز فإن دخول المرحاض محتوم بعد 6 ساعات ثابتات لا يتغيرن، لذا فنسبة متابعي الأخبار السياسية القليلة في غزّة، غالبا لا تخرج من المرحاض لكثرة الهراء السياسي على شاشات التلفاز، ومنهم من وضع تلفازا في مرحاضه ليس ترفا وإنما لأنهم ما عادوا قادرين على الخروج منه.
وصفها صامد ذات مرة، غزة وطن رملي.... فلا فولاذ فيه يثبّت دعائمه، ولا إسمنت مجبول تبنى فيه الدعائم ولا أحجار تصمد في وجه الريح... ولا حلفاء يدكّون الأرض، حياتها اليومية مقيتة مكروهة وريحها تملأ الأعين بالرمال، هناك فقط تُعمى الأبصار والأذهان، والإبداع يعج بحواريها.
معادلة لا يمكن لعالم فيزياء توضيح تفاصيليها ولا شرح محتواها ولا تفسير منطقها، لكنها موجودة ثابتة بلا حراك، لا تتغير تحطم فولاذ الذاكرة وتوقف الحروف عند الشفتين.
حاول صامد على سنوات عدة الهجرة أو الهرب، كانت دائما محاولات فاشلة أشبه بمحاولات محكوم بالإعدام بجانب حبل مشنقته إثبات براءته في اللحظة الأخيرة قبيل التنفيذ.
الرحيل ليس بتلك السهولة التي تتصورها، فرحيلك حتى من الوطن غربا إلى الوطن شرقا، سيمنعك من رؤية أمك وأبيك وأخيك وأختك وأصدقائك، ستحرم رؤية منزلك بإرادتك الكاملة، فلك حرية العودة من الهجرة لكن الخروج من غزة ليس بيدك.
الحواري هن نصف الجمال، ورقع المنزل المهترئة نصفه الآخر، وطموح العبور هو كل شيء، لكن يقظة أمك في نهاية كل ليلة تصفعك على جبين أحلامك فتعيدك إلى الوراء فكرتين أو أكثر.
الطفولة هناك لها طعم آخر فيها الجمال وأنصاف الآلهة، لا منافس فيها إلا البحر، جيل ابن الـ10 أعوام لم يشاهد أحدا خارج حدود الحصار اللئيم، وجيل أكبر من هذا بكثير لم يشاهد الحياة الحقيقية إلا من خلال الشبك أو الجدار الفاصل بين زمانين، أو مكانين.
يتبع...
لقراءة الحلقة الأولى هنا
لقراءة الحلقة الثانية هنا