الجمعة  03 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وجهان لمصر في إعلانات رمضان

2017-06-23 03:15:37 PM
وجهان لمصر في إعلانات رمضان

الحدث الثقافي

 

تبدو مصر في إعلانات رمضان غريبة عجيبة مريبة فريدة. هي مصر التي لا تراها سوى النخب الاقتصادية، ولا يعرف عنها سوى «المسجونين» في منتجعات مغلقة. والغريب في أمر الإعلانات الرمضانية على مدار العقدين الماضيين أنها تحولت من مجرد أموال ينفقها المعلنون للترويج (لسلعة أو خدمة) إلى منظومة قائمة بذاتها، تكشف الكثير عن الوجوه المحجوبة، وتفضح المستور من فئات وطبقات على طرفي نقيض، لا يعرف كثيرون أنها موجودة، بالإضافة إلى تحولها أداة للتوعية ووسيلة للتهدئة ورسالة للإعلام والإخبار ودرء خطر القيل والقال.

 

قال نوّاب في مجلس النواب إن إعلانات رمضان التي تطغى عليها مناشدات التبرع وتهيمن عليها نبرات التضرّع تسيء الى البلاد والعباد. وقال مشايخ غير محسوبين على مشايخ إعلانات التبرع إن هذه النوعية من الإعلانات فيها فجاجة وتسوّل. وقد تبرأ مسؤولون منها خوفاً من أن تحسب عليهم. وقال مشاهدون كثيرون إنهم باتوا يشعرون بأن جيوبهم تُستنفد وضمائرهم تستنفر ومشاعرهم تتضارب بين رغبة في التبرع وتخوف من الامتناع عسى أن تكون جهنم مصيرهم.

 

يخاصم بعضهم الشاشات في أثناء بث الإعلانات. وعلى رغم أن السبب الكلاسيكي للخصام هو كثرة الفواصل الإعلانية التي تفسد متعة مشاهدة الأعمال الدرامية، فإن سبباً حداثياً جديداً أضيف هذا العام، ألا وهو وخز الضمير وعذاب النفس.

 

بين أطفال مستشفيات علاج السرطان، وأقرانهم من ضحايا الحروق وأمراض القلب، وآلاف البيوت المحرومة من البنية التحتية البديهية، إلى الغارمات والغارمين الذين يمضون سنوات في السجون لأنهم اقترضوا أموالاً تعينهم على الحياة ثم عجزوا عن تسديدها، إلى بناء المدارس والجامعات والمراكز البحثية، يضيع المشاهد في دوّامات من الرغبة في المساعدة والنجدة، تصاحبها سيولة في الأماكن المتاحة والفئات المحتاجة.

 

إفراط

يحتاج المشاهد الراغب في المساعدة إلى وضوح الرؤية حول الجهة التي يود التبرع لها من دون غيرها، أو الى قرار بالامتناع عن متابعة إعلانات التبرعات حقناً لعذاب الضمير ووقاية من تشتت التفكير.

 

ولكن على صعيد آخر، فإن كثيرين باتوا يشعرون بأن الإفراط في الاستجداء والمبالغة في دفع المحتاجين إلى عرض مآسيهم وكوارثهم مع كثير من التأوهات فيه إساءة الى البلاد والعباد. لقد دعا وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة «صنّاع إعلانات جمع المال بقصد الخير» إلى مراعاة ظروف مصر الحضارية والإنسانية، وعدم المتاجرة بمشاعر وأحاسيس الفقراء والمحتاجين، أو المبالغة في عرض المشكلات المجتمعية، معتبراً ما يحدث إساءة الى صورة مصر الإنسانية والحضارية والاقتصادية في الداخل والخارج. وجاءت كلمات وزير الأوقاف معبّرة عن مخاوف ومشاعر غضب اجتاحت كثيرين في شأن هذه الإعلانات، لا سيما بمطالبته بمراجعة هذه الإعلانات بشكل يحقق رسالتها الراقية في دعم أصحاب الحاجات، «لكن من دون أن نخدش حياءهم أو إنسانيتهم أو أن نتــاجـــر بـــأوجاعهم أو نشوه جانبًا من الصفحة الحضارية الراقية للوطن».

 

هذا الوطن المتمثل في هذه الإعلانات المحتاج دعماً للمستشفيات وعلاجاً للمرضى وإنقاذاً لسكان البيوت الآيـــلة للسقوط ومــالاً للفـــقـــراء والمحتاجين وكتبــاً وأوراقاً للمحرومين مـــن التعليم وتبرعاً لمياه الشرب وبــنــاء أسقف البيوت، يجد نفسه واقفاً على طرف نقيض عقب إعلان الدق على أوتار الصائمين المتصدقين.

 

من الـ «بارك» (متنزه) إلى الـ «لاغون» (بحيرة) ومنهما إلى الـ «دريم» (حلم) ثم عودة إلى الـ «ماونتان» (جبل) والـ «ريفر» (نهر) وكذلك الـ «لايك» (بحيرة) والـ «باتيو» (فناء) والـ «باراديز» (جنة)، يتحير المشاهدون في شأن مصارف الصدقة، فهل الطفل المريض بالسرطان أولى أم الأم الغارمة أبدى؟

 

عقارات مليونية

الحيرة ترافق المشاهد أيضاً أمام إعلانات المنتجعات السكنية. كمّ هائل من إعلانات العقارات المليونية تخدّر أصحاب الصدقات الحائرة والضمائر الفائرة. وعود بحياة مخملية، وأجواء باريسية، وبحيرات بريطانية، وأنظمة سويسرية مع الإبقاء على السوقة والدهماء خارج أسوار المنتجع العالية تصيب المشاهدين إصابات فكرية بالغة. فالوحدات المعلن عنها لا يقل سعر أرخصها عن بضعة ملايين من الجنيهات، وعلى رغم ذلك تجد إقبالاً منقطع النظير على طوابير الحجز.

 

مصر التي نجدها في إعلانات التبرعات وتلك التي في إعلانات المنتجعات، تقفان على جبهة واحدة حين يحين موعد التوعية والمعلوماتية. توجه إعلاني جديد غزا بيوت المصريين عبر الشاشات الرمضانية هذا العام. توعية بمغبة الزيادة السكانية غير المدروسة، والاستهلاك المفرط للكهرباء والماء، والغش والتدليس في بطاقات التموين وغيرها من أشكال التوعية للمواطن البسيط تملأ الشاشات لتنعكس سجالات طبقية صريحة.

 

وعقب كل إعلان من هذه النوعية يضج «فايسبوك» و «تويتر» بلوم يصل حد الشجب والتنديد للبسطاء والفقراء الذين يضرون الجميع بمعتقدات بالية وتصرفات مستهترة، وهي ما تؤدي غالباً إلى مشاحنات فكرية ومعارك لفظية يشنها اليساريون والاشتراكيون دفاعاً عن الفقراء ودحراً للأغنياء المتضررين.

 

الأضرار الناجمة عن تداول الإشاعات واعتـــبــار آراء المحيـــطين مــعلومات والارتماء في أحضان من يبالغون في رؤية الجوانب الإيجابية ومن يفرطون في الانغماس في الجوانب السلبية في ما يجرى في مصر تحولت إلى حملة إعلانية تغازل ملايين المصريين المثبتين أمام الشاشات الرمضانية. هذه الإعلانات تضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جهة، تعلن أن الدولة ترصد اللغط الدائر في الشارع وحالة اللخبطة التي تعتري المواطنين في شأن تقييم الأمور. ومن جهة أخرى، تذيل هذه الإعلانات بمعلومة رسمية موثقة، مثل عدد المشروعات القومية التي تم إنجازها، أو حالة الطرق والشبكات الجديدة المنجزة، وغيرها. ويرى بعضهم أن الغرض من هذه الإعلانات الحكومية تسكين مواضع القلق والخوف لدى قطاع عريض من المواطنين، والناجمَين عن قلة المعلومات الموثقة ووفرة التحليلات المسيسة.

 

وعلى سبيل التسييس، سطع نجم إعلان قطط الشوارع بشكل كبير منذ تم بثه للمرة الأولى قبل أيام. مجوعة من قطط الشوارع الضالة يتحدث كل منها عن معاناة «45 ألف قطة شارع»، منذ بدأ «البني آدميين» يلتهمون كل طعامهم غير تاركين مخلفات للقطط. الإعلان الذي يروج لنوع من الطحينة «يجعل كل الأكل يتاكل» وفيه إسقاط على الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطنون والتي ألقت بظلالها الوخيمة على قطط الشارع.

 

وعلى رغم ملايين الإعلانات، ومصر المحتارة بين التبرعات والمنتجعات، والمشاهدين الميالين إلى تصديق الإشاعات أو التشبث بالأوهام أو عدم الاهتمام بكل ما سبق، يمكن القول إن شهر رمضان هذا العام كان شهر إعلانات بامتياز.

 

الحياة اللندانية