السبت  20 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جنين 2002

2014-05-27 00:00:00
جنين 2002
صورة ارشيفية

فصل من رواية

بقلم: أنور حامد - روائي فلسطيني

كنت مقتنعة أن أبي أقوى واحد في الدنيا! أقوى من الضبع والغولة في حكايات ستي، أقوى من مدير مدرستنا ومن الأولاد الزنخين في الحارة مجتمعين. أقوى حتى من زاكاش، المصارع الضخم الذي كنا نراه في التلفزيون. وحين طرق الجنود باب منزلنا المتهالك في المخيم، هم لم يطرقوه، بل خلعوه بضربة واحدة من أعقاب بنادقهم، قفزت من الفراش فزعة على صرخاتهم تتردد في أرجاء البيت. ثم رأيت أبي يخرج من غرفته، فعاد الاطمئنان إلى قلبي. سوف يصرخ فيهم الآن صرخة تزلزل أركانهم، وقد يصفع كبيرهم صفعة تخلع وجهه خلعاً، فيرتعد البقية من الخوف. أبي أقوى واحد في الدنيا، وسيريهم! ثم، سمعته يتحدث إليهم، لكن كلماته لم تكن تدوي بل ترتجف، وهو يرجو الضابط بصوت ذليل والضابط يصرخ به، ثم تختنق كلمات أبي، أبي يبكي!! أبي!! أقوى واحد في الدنيا، يبكي!! والطفلة ذات السنوات التسع تنكمش وتنكمش، حتى يبتلعها كيان آخر، مهزوز، مشروخ، بلا حماية.. أبي ليس قوياً، بل هو أضعف واحد في الدنيا!!

الآن لم أعد طفلة يا أبي، لكني أحتاجك، أكثر من أي وقت آخر.. أحتاجك كما أنت، ضعيفاً، مغلوباً على أمرك، لأني وحيدة في مواجهة كل هذا. حتى جدتي لم تعد معي. أنت وأمي تركتماني في عهدتها حين سافرتما إلى عمان لحضور زفاف عمتي. أخذتما حمودة ووفاء وأنا بقيت مع جدتي لأن علي واجبات دراسية كثيرة، فالامتحانات على الأبواب. تركتماني في عهدة جدتي، لكنها الآن أصبحت في عهدتي.. هذا كثير يا أبي! كثير على عمري، كثير على هشاشتي، على فزعي من القادم. أبي، أين أنتم؟ هل سأراكم؟ أم تعبر النافذة رصاصة أخرى، ولا تخطئني هذه المرة ؟

-2-

تلك كانت الصفحة الأولى والصحوة الأولى، الرعشة الأولى والضياع الأول، بيد أنها لم تكن المأزق الأول. تلك كانت الكلمات الأولى التي وضعت الفلسطيني الميت في مواجهة اليهودي الحي، الفلسطيني الحي في مواجهة اليهودي الميت.

المأزق الأول كان قبل سنوات من عثوري على كراستها المضرجة بدمائها، وبداخلها يوميات وخواطر كتبتها أثناء حصار المخيم، مخيم جنين. يا إلهي كم يبدو المشهد مألوفا ! déjà vu! كم مرة قلبت صفحات الكتاب الذي يحوي يوميات آني فرانك، وتماهيت مع الهلع الذي لا بد كان ينتابها في أيامها الأخيرة. كم مرة فكرت فيها ونحن نزور متحف “ياد فاشيم” مع طلاب مدرستي، وحين كانت جدتي العجوز (جدة والدي) تقص علينا كيف نجت من غرف الغاز؟ طرق باب بيتها في بودابست اثنان من رجال النازي المحليين ودعوها لمرافقتهم إلى معسكر لتجميع اليهود بالقرب من بودابست، تمهيداً لنقلهم إلى أوشفيتس، لكنها أخبرتهم أنها معفاة بحكم سنها، وصرخت تنادي ابنتها أستر لتحضر لها بطاقة الهوية حتى يتأكدوا من سنها. حسن أحضرتها سألها أحد الشرطيين: 

- كم عمرك يا صبية ؟

أجابت ببراءة:

-21 سنة

فقال لها الآخر ببرود: أنت لست معفاة إذن، تعالي معنا.

ومنذ ذلك اليوم لم تعد، ومنذ ذلك اليوم عاشت جدتي، يهوديت، يرافقها شعور قاتل: أنها سلمت ابنتها الشابة إلى غرف الغاز بيديها، وشت بها! كانت تجتاحها نوبات بكاء هستيري في كل مرة روتها لنا، وكانت لا تكف عن روايتها. في إحدى تلك النوبات سقطت على الأرض فاقدة الوعي، ولم تفق أبداً.

خالتي أستر، أو هي جدتي، لأنها شقيقة جدتي إيفا، كانت بطلتي التي فدت والدتها بحياتها، وآني فرانك كانت حبيبة سني مراهقتي، أما أريج الشايب فهي كابوس لياليَ المعذبة، وشبح يطارد أمسياتي، وقصة سأنقلها للعالم الذي لم يتعظ من يوميات آني فرانك، فهل هناك أمل أن يتعلم شيئا من يوميات أريج الشياب؟ لا أظن، ولكني سأرويها على أي حال.