الإثنين  29 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"إشكالية الوعي العربي والفلسطيني " بقلم: رائد دحبور

2017-07-11 12:47:34 PM
رائد دحبور

تكمنُ إشكاليَّة الوعي – بما هو عام - في طبيعة التَّصوُراتِ الذِّهنيَّةِ الأساسيَّة المسبقة التي تفرض على العقل قاعدة معيَّنة أو جملة من القواعد النمطيَّة في التَّفكير تجاه الذَّات والواقع؛ وبطبيعة الحال يصبح العقل أسيراً للتنميط في تصور الأشياء؛ فالتَّصَوُّرات الذِّهنيَّة هي بمثابة الخرائط الَّتي نرسمها في أذهاننا للواقع الَّذي نعيش فيه؛ أو نستهدف الوصول إليه؛ وهي تتضمن أيضاً صورة عن الذَّات، وكيف نراها من الداخل؛ وعندما تكونُ هذه الخرائط غير صحيحة ومُشَوَّهة؛ أو تحمل أسماءً وعناوينَ غير صحيحة؛ فإنَّها تَعْكِسُ صورةً مُضَلِّلَة وغير مُطابقة للواقع الخارجي أو لواقع الذات ومكوناتها الداخلية؛ وبالتَّالي تؤدِي إلى سلوك طرقٍ غير صحيحة لا تُوصلُ إلى أيِّ هدف صَّحيح.

لقد تمَّ صياغة وعينا وعبر حِقَبٍ تاريخيَّة مُتَّصِلة؛ ضمن بنيان عاطفيٍ و انفعاليّ يغرق في اليَنْبَغيَّات – ينبغي فعل هذا ولا ينبغي فعل ذاك -  وليس على أساسٍ عقلاني منطقي _  أو  إدراكي _ بالمعنى العملي الصَّحيح بحيث يراعي العناصر الأساسية والفاعلةِ لمكونات الواقع في محاولة لفهمه والتعامل مع مجرياته ومستجدَّاته ؛ وفي ذات الوقت فقد تمَّ صياغة وعينا العربي في بيئةِ الاغتراب والغياب عن سياق التَّطوُّرات والتَّحوُّلات المنهجيَّة الكبرى الَّتي اعتَرَت العالم على صعيد المعرفة والعلوم والثقافات الإنسانيَّة والمسارات الحضاريَّة والمدنيَّة الَّتي واصلت تحوُّلاتها ونموّها منذ أواسط القرن السَّادس عشر الميلادي وحتَّى الآن؛ مِمَّا أدَّى إلى أنْ تعيش الشخصيَّة العربيَّة في منطقتنا على مستوى الثقافة والوجدان والسلوك حالة انفصام؛ تَتَبدَّى آثارها في أزمة صياغة الهويَّة والانتماء في بيئة التَّخلُّف والاغتراب الحضاري؛ وفي ضعف الإرادة؛ وفقدان التوازن والضعف في مواجهة التحدِّيات الدَّاخليَّة المُتَّصِلة بواقع التجزئة المُزْمِنْ وبحاجات النُّمو والتنمية الشَّاملة؛ وبالعجز عن استثمار موارد وثروات الأقطار العربية وتوزيعها بشكل عادلٍ؛ ووضعها ضمن الإرادة العربية الحرة والمستقلَّة وضمن صيغ من التعاون الحقيقي والتكامل الفعَّال. وهذا قد أصبح الحديث فيه الآن ضربٌ من الأحلام.

وقد كان الحال كذلك فيما يتعلَّق بالتحديات الخارجية المتمثِّلة بواقع الهيمنة والسيطرة الأجنبيَّة؛ وبفقدان الدَّور الفاعل والافتقار إلى أي فاعليَّةٍ حقيقيَّة في مجريات السِّياسات الإقليميَّة والدوليَّة؛ التي تُلقي في الغالب بآثارها وتفاعلاتها على امتداد مساحات الوطن العربي؛ الَّذي هو ملعبها وهدفها في آنٍ معا كما نرى الآن بوضوح.

حتَّى الآن لم يتم تناول إشكاليَّة الوعي لدينا بجرأة وبموضوعيَّة وضمن سياقها التاريخي، كسببٍ وكنتيجةٍ في آنٍ معاً، وذلك بكل ما يتصل بمكونات الثقافة الدينيَّة والاجتماعيَّة أو بما يتَّصل منها بحقيقة المشاعر القوميَّة والوطنيَّة؛ حيث تعوم تلك المفاهيم في فضاء الشعارات والأطر النظرية غير محددة المعالم، فحتَّى الآن لم يتم تناول كثيراً من المفاهيم بالمراجعة الجديَّة على قاعدة أصلها السيكولوجي – بما يفرضه علم النَّفس الجماعي – أو على قاعدة أصلها السوسيولوجي – بمعنى مجموعة القواعد والنُّظم والقيم التي يتحرَّك ضمنها المجتمع أو تلك التي تحم حركته -  ولمْ يتم امتلاك الجرأة لمراجعة الموروث الثقافي الديني في سياقه التاريخي بشكل سليم، بعيداً عن منهج الاعتقاد بالصِّحة المطلقة لكثير من جوانب ذلك الموروث من جهة، وعدم محاولة التمييز الجريء بين ما هو  إنساني وبين ما هو إلهي من بين تلك النُّصوص.

وعلى كل حال لم يتم إلى الآن الإشارة وبكل صراحة إلى أنَّ تلك الإشكالية تتعلَّق وبشكل أساسي  بمسألة العجز عن التمييز بين ما هو استراتيجي من أهداف وعلاقات في البيئة الإقليمية والدولية وبين ما هو ثانوي من أهداف، وطارىء من علاقات في البيئة المحيطة دولياً وإقليمياً ، وذلك يتصل، وفي الأساس، بأنماط الإدراك التي يفرزها ذلك الوعي من رؤية انتقائية ونمطيَّة بالية، لا تساعد على مواجهة تحديات النمو والتطور والتفاعل الصحيح مع العوالم المحيطة.

 لا يزال وعينا العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً  أسيراً للتفسيرات التبريريَّة والمتافيزيقيَّة لتاريخٍ طويل من الإخفاقات؛ وغير مستعد لمناقشة عوامل ومفاعيل التجارب التاريخية الفاشلة على صعيد الثَّقافة والسِّياسة والأداء الجماعي، وعلى هذه القاعدة شاهدنا قوَّة التأثير السَّلبي للتمسُّك بالشِّعارات العائمة في فضاءِ العجز والإخفاق،  وشاهدنا التَّمسُّك بمفاهيم سياسيَّة  ليس لها واقع، وكلّ تلك الشِّعارات والعنتريَّات ما تزال تطفو على سطح الوعي والعقل والسلوك العربي والفلسطيني طيلة عقود طويلة من الزَّمن.

لقد تمَّ إطلاق كل هذه الشعارات على ضفافِ الحركات القومية والوطنية واليسارية والإسلامية على حدٍّ سواء دون برامج تفصيلية حقيقية؛ وبغير إطارٍ منهجي فلسفي وواقِعي وعملي يتصدَّى لحل المسألة الأساسية المتصلة بكيفية إدراك الواقع والتعامل مع عوالم مُتحوِّلة من حولنا على أسس صحيحة، وبكيفية صياغة الوعي، وصياغة التَّصَوُّرات الذِّهنيَّة بعيداً عن منطق التحيُّز الأعمى والمطلق اللَّصيق بمنطق المبالغة في تقدير وتعظيم الذَّات الفئويَّة والحزبيَّة وحتِّى الشَّخصيَّة في مراتب صناعة القرار على أسس مُبْهمة، ودون امتلاك المقومات الحقيقية لذلك التقدير المبالغ فيه؛ وغير المُسْتَنِد إلى أسباب ومقوِّمات الفاعليَّة والكفاءَة والقوة ؛ مِمَّا كان يفضي في أغلب الأحيان تكرارِ مزيدٍ من خيبات الأمل، عزّزَت في النهاية من طغيان مشاعر فقدان الثقة بالنفس، وأدت إلى الإخفاق وتعميق الأزمات؛ بدلاَ من أن تؤدِّي إلى استخلاص العبر في معالجتها ومعالجة آثارها؛ كما كان مُفْتَرَض !!.

 

كل ذلك مدعاة لضرورة التمييز بين نَمَطَيْنِ من التفكير أو الأفكار هما: الأفكار الرأسيَّة والأفكار الجانبيَّة، ومقدار حاجتنا لكلٍّ منهما. يُلاحظ أنَّنا نتمسَّك بالأفكار الرأسيَّة – وهي طريقة في التفكير تشبه استمرار الحفر عميقاً في مكان واحد وفي حفرة واحدة بذات الأدوات التي ثبت فشلها وبدون طائل – فيما نحاول تجنُّب توليد الأفكار الجانبيَّة التي تقتضي التفكير بأسلوب ديناميكي أكثر فعاليَّة، والَّتي هي بمثابة الحفر في مكان جديد وبأدوات أكثر مُلاءَمة وحداثة؛ فما زلنا نحفر في ذات المكان بأفكار رأسيَّة أثبتت التجربة وسياقات الواقع والوقائع عدم كفاءَتها وجدواها؛ ولأنَّنا باختصار لا نملك جرأة مراجعة الأفكار، ولا نمتلك إرادة واعية مدركة بعيدة عن مفاعيل  وضرورات المصالح والرَّغبات الفئوية والشَّخصيَّة المُتقوْقِعة في شرنقة تقديس وتبجيل ذواتنا القبليَّة والثقافيَّة والفئويَّة والحزبيَّة؛ فسنبقى في طور الإعاقة على صعيد كلٍّ من الوعي والسُّلوك الجماعي.