الأربعاء  08 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ليلة الأسباط بقلم: طارق عسراوي

حكاية العدد

2017-07-25 10:34:31 PM
ليلة الأسباط
بقلم: طارق عسراوي
طارق عسراوي

صعدتُ من وادي الجوز عبر طريق المقبرة اليوسفية باتجاه باب الأسباط،  عند درجات سوق الماشية القديم، كان نَبض أزقّة القدس العتيقة  يتصاعد من الحناجر الملتهبة بالهتاف، والغليان، ويتصادى خارج الاسوار برقاً ونصالا.

 

لم أكن وصلت إلى باب الأسباط بعد لكن صوت المرابطين الساخن يدبُّ الحماسة في عروق القادمين فيحثُّون الخُطا متعجّلين الوصول.

 

هناك، بين سور مقبرة الرحمة ومقبرة اليوسفيّة، عند باب الأسباط تماماً، تجمّعت الاف القلوب المنذورة للعشق والوفاء يجمعها عهد المقدّس والهوية، محاصرين بمئات الجنود المنتشرين فوق الأسوار وخلف كاميرات المراقبة والحواجز الحديدية.

 

في تلك الساحةِ، نقش أسدين يزينان واجهة الباب مرّا ذات حلم في ليل السلطان سليمان القانوني؛ الذي حلم ان الأسود تطارده وتنوي افتراسه لأنه لم يقم بإعادة بناء أسوار المدينة المخربة. [كما تقول الحكاية ]

 

وهناك السماءُ حُمِلت على الأكفّ، وتدلّت منها عناقيد النجومِ حتى بدت مثل قناديل معلّقة تنيرُ الأزقة والأقواس، وهناك أيضاً وقف الغزاةُ على أسوار المقبرة يشهرون احتلالهم المحشوّ بالرصاص وشهيّة الدم.

 

كانت حناجرُ المقدسيينَ محاصرة بالتخلي، واليتم والخذلان والاحتلال، وأرواحهم المحلّقة تحاصر بتضافرها الجنود المُحاصرين.

 

فجأة، تسلق شابٌ عمود الانارة وقفز فوق السور متحدياً الجنود، كانوا ثلاثة جنود في تلك الناحية حيث وقف الشاب شاهراً صدره بوجههم، خافوا، تراجعوا، سنّوا بنادقهم من كل صوب بينما على شفتيه ابتسامة الكبرياء وهو يردِّد:

وهمٌ هذا الاحتلال،

وهنٌ هذا الصمت..

 

وبالرغم من عشرات البنادق التي نفثَت جحيمها في وجه الهتاف المرّ قنابل حارقة، ارتفع النداءُ للصلاة.

فصلينا العشاءَ على الاسفلت- كما تقول القصيدة- خارج الاسوار، تحت سماءٍ عارية، وفوهات البنادقِ المحشوّة بالقتل والخذلان.

 

وظلت القدس محروسة طوال الليل بالعيون، ومضاءة بسراج الروح.

يوزّع فيها الأطفال الماءَ والتمر والحلوى على الاف المرابطين القادمين لعهدها أوفياء حتى الشهادة.

فوالله في القدس نسوةٌ، لا ينتظرنَ معتصماً يلبي استغاثتهن، ولو صاحَ رجلٌ في أقصى الجزيرة " وا مريماه " لأتينه ناصرات.

 

والله فيها فتيةٌ، يزأرون في وجه الموتِ فيصفرُّ خشيةً، وهم يبتسمون.

والله ترى في القدس أنبياء يفسحون الطريق لرجل عجوزٍ يشهر عكّازه في وجه البندقيّة، فتضرب جذرها في الأرض زيتونة تستظلُّ بفيئها رسالات المرسلين.

والله فيها شعبٌ وقف يحمي البيتَ مسلّماً ومؤمناً، زاهداً بالإبل لا يحيد ولا يلين.