الحدث- ريم أبو لبن
يقول الطبيب: "لن ينبض قلبه بعد 40 يوماً". وتقول امرأة تجالس طفلها وتلقي بكفيها المهملين على حافة السرير: "ابني سيعيش.. سيحارب المرض .. لا تقول هذا".
هنا تقف الأم على ناصية الأمل وتحدّق بتفاصيل تلك الكلمات التي يرددها الطبيب مرارًا وتَكرارًا حينما تُذاع على مسمعها في لحظة التسابق مع الوقت والبحث عن مخرج لعلاج ابنها. والسؤال هنا ..أين المخرج؟
يقال: إنّ الحالة النفسية للمريض هي مَن تقوده لتسريع العلاج بجانب الدواء، وقد تقودنا حالات مرضية لمرضى السرطان للاقتناع بهذه المقولة. ولكن هل يقتنع الأطباء بها فعلاً؟ وهل يتراجعون عن وصف الحالة الصحية لمرضاهم من خلال تمرير بعض الجمل، ومنها ما يردد على مسمعهم: "لا أمل في العلاج ..وليس بيدنا فعل شيء"؟
وقع هذه الجملة قد تُفقد المريض "الناضج" متعة التناوب على استقبال "الانتكاسات" المرضية المتكررة ومجابتها بـ"ضحكة" تذوب هيبة المرض، وقد يفقد صوابه ويرحل. ولكن كيف يكون وقعها على طفل لم يتجاوز عمره الـ 6 سنوات، وهو مريض بتشنج جسدي عُرف بندرته ولا يحاور أحدهم إلا بالعيون، حتى أنه لا يستطيع النطق ليقول للطبيب: "كفى ..أريد أن أعيش لا تفقدني ما تبقى من الأمل".
وتقول والدة الطفل المصاب بالتشنج لـ"الحدث": "طوال ثلاث سنوات ماضية، وأنا استمع لذات الجمل التي توحي بمضمونها بأن لا علاج لابني، وبأنه سيموت، كيف للطبيب أن يقول لابني هذا؟"
وأضافت: "بفعل هذه الكلمات قد شعر طفلي بالإحباط، وهو يعاني الآن من اكتئاب حاد، وفقد الأمل بالحياة، لماذا يفعلون هذا بأطفالنا؟"
بعض الأطباء يعتقدون -وبحسب ما ذكرت الأم- بأن الطفل الذي يبلغ 6 سنوات لا يدرك أهمية الحياة والتعامل مع جسده، وبهذا فقد يتسرعون في إطلاق الأوصاف المرضية أمامهم غير مدركين بذلك ثقل الجمل على كاهل الطفل وأهله كذلك.
" ابني يصف الطبيب بـ (زومبي)"
قالت والدة الطفل لـ"الحدث": "ابني يفر هروبًا من الطبيب ويرفض أخذ الحقنة بسبب معاملته القاسية له، لا سيما وأن ابني مريض بالهيموفيليا ومن الضروري جدًّا أن يحصل على الحقنة بعد كل كدمة يتعرض لها".
مرض الهيموفيليا هو مرض وراثي يسبب خللاً في الجسم ويمنعه من السيطرة على عملية تخثر الدم، ويصيب الذكور أكثر من الإناث. غير أن مريض الهيموفيليا قد لا يعاني من حدوث نزيف خارجي فقط إثر تعرض جلده للكدمات، وإنما قد تتعرض الأمعاء أو الدماغ لديه وحتى العضلات والأعضاء المجوفة إلى نزيف داخلي، وأحيانًا كثيرة يتسبب بالوفاة.
الطفل مصطفى البالغ من (7) سنوات مصاب بمرض الهيموفيليا وقد لازمه هذا المرض الوراثي منذ ولادته، مشاكسته المبكرة قد أهرقت جسده وجيب والديه في آن واحد، فكلما أسرع في الركض وسقط أرضًا أصبح من الملح فورًا إسعافه إلى المستشفى وإعطاؤه الحقنة، وقد لا تتوفر أحيانًا.
قالت والدته: "اسرع في نقل ابني إلى المستشفى وقد اضطر للجلوس نصف ساعة في الطوارئ، ثم يتم تحويلي إلى قسم الأطفال وحينها انتظر الطبيب المناوب لمدة ساعة أو ساعتين أملاً في الحصول على الحقنة".
أضافت: "نحن نتحمل غضب الأطباء ومماطلاتهم، ولكن حالة ابني الصحية لا تستطيع الانتظار، لا سيما وأنّ طفلي يفر هاربًا إنْ وجد أحد الأطباء يناديه ليحصل على الإبرة، فهو لا يبتسم بوجه وقد أخطأ عدة مرات في وضع الإبرة، مما أشعر الطفل بالخوف".
في هذه الحالة قد تتأثر الحالة الصحية للطفل وتزداد سوءًا، لا سيما أنّ الطبيب العامل في قسم الأطفال التابع لأحد المستشفيات الحكومية قد أوجد صورة نمطية لدى عقل الطفل المعالج باعتباره الرجل "الزمبي"، وعلى حدِّ الوصف البريء لدى الطفل. فلماذا على الأطباء أن يكونوا "زومبي"؟
"قال الطفل: يسلم ايديك .. والطبيب لم يكترث"
بعد أن حصل مصطفى على الحقنة، اقترب من الطبيب رغم ألمه الكبير، وقال له مبتسمًا: "يسلم ايديك". وفي تلك اللحظة لم يلتفت الطبيب إليه، وعاود مصطفى ترداد تلك الجملة، وبصوت أعلى أملاً في الحصول على رد يسقط ذاك الخوف الذي بعث فيه نتيجة المعاملة السيئة من أحد الأطباء.
ولكن ماذا كان الرد؟ تنحّى الطبيب جانبًا، وغطّى أذنيه عن ذاك الصوت البريء ..وتوجه نحو الباب بخطى سريعة وأغلقه بقوة ..والتفت مصطفى لأمه وبكى.
"10 جرعات .. بنظرهم غير طارئة"
قال والد الطفل المصاب بـالهيموفيليا معبرًا عن استيائه: "الطبيبة في قسم الطوارئ رفضت إدخالنا قسم الأطفال، وقالت بطريقة مزعجة: هناك قرار إداري جديد بعدم إعطاء الدواء لطفل الهيموفيليا بعد الساعة الثانية مساءً إلا في حالات الطوارئ وبحجة إغلاق الصيدلية".
أضاف: "وقد تبيّن بعد التواصل مع الإدارة أنه لا وجود لهذا القرار، وقد تم الاستخفاف بنا وفي حالة الطفل".
مصطلح "الطوارئ" في هذه الحالة قد اتسعت مداركه واتسم بـ (مصطلح مطاطي) -حسب ما ذكرت والدة الطفل- لا سيما أنّ ابنها يحتاج إلى 10 جرعات من الدواء لخلع سن واحدة.. فهل هذه حالة طارئة؟
"صدمة نفسيّة ثنائيّة"
قال الأخصائي النفسي محمد الطويل لـ"الحدث" واصفًا الحالة التي تدور داخل غرفة المريض أثناء تشخيص المرض: "هي صدمة نفسية ثنائية يعاني منها كلٌّ من الأهل والممرضين بشكل أساسي؛ وذلك لأن الممرض يكون في تواصل دائم مع المريض، وهو من يستقبل ردات فعل الأهل سواء بشكل إيجابي أو سلبي".
أَضاف: "عرفيًّا لا يطلب من الطبيب أن يستخدم أحد الأساليب المعينة في التعامل مع المرضى، وقد يجتهد البعض في دراسة أساليب التعامل، في حين من يواجه المريض هو الممرض وليس الطبيب".
وعليه، " فإنَّ الطبيب يُعلم الأهل بإصابة المريض بالسرطان، وحينها يواجه الممرض غضب الأهالي، وليس الطبيب".
" نقص المعلومة يسبب الخوف"
"الطفل بعمر 6 سنوات لا يدرك تمامًا ما معنى المرض، غير أن نقص المعلومة لدى الأهل قد يزيد الأمر سوءًا". هذا ما أكده الأخصائي النفسي محمد الطويل، حيث دلل من خلال ذلك على ضرورة توعية الأهل وتزويدهم بالمعلومات حول الأمراض وكيفية التعامل معها.
أَضاف: "الطفل لا يدرك معنى المرض، ولكن قد يدرك أعراضه من خلال معرفته الكامنة بأن أخذ الحقنة سوف يخفف عنه الوجع، أو أنّ ذاك الدواء سيقلل من ألمه. وقد يشعر حينها بالخوف من أخذ الحقنة ويفر هاربًا من الممرض ذاته".
وأوضح الطويل بأنّ الأهالي هم من يتأثرون بشكل أكبر نتيجة مرض أطفالهم، لا سيما أنهم يفضلون عدم مصارحة المريض أو الطفل بمرضه ظنًّا منهم بأنّ إعلامهم بسبب المرض قد يثقل عليهم عبئًا آخر بجانب ضعفهم الجسدي والنفسي.
في ذات السياق، قال: "على الأهل إعلام أطفالهم بالمرض فهم بعمر صغير لن يدركوا معنى المرض الفعلي، ولكن يمكنهم الشعور به وبأعراضه. فلا داعي لإخفاء الأمر عنهم، ولنتحدثهم عن المرض بطريقة أبسط، وبأنه قابل للعلاج".
واستكمل حديثه راصدًا بذلك موقفًا لإحدى الأمهات في قطاع غزة بعد أن حاولت تخبئة سبب المرض عن طفلها الذي يبلغ من العمر 7 سنوات: "قالت له الوالدة بأنه مصاب بالحساسية، وهو بطبيعة الحال مصاب بالسرطان، وقد علم بالأمر بعد مشاهدته تقريرًا يتحدث عنه وعن مرضه، وحينها سأل الأم: أنا مصاب بالحساسية أم بالسرطان؟".
أَضاف: "وعندها لم تدرك الوالدة كيف تجيب عن سؤال الطفل. هل تعلمه بالحقيقة؟ عليها ذلك.. وعلينا ألا نربط مفهوم السرطان بالموت.. فإنّ 78% من الحالات المرضية بالسرطان في العالم قد شفيت، و22% قد وافتهم المنية".
قال: "إذا غير الكبار مفهومهم عن السرطان، فإنّ المفهوم سيتغير عند الصغار".