الإثنين  29 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"صيرورة مرحلة.. إسرائيل أُخرى جديدة!!" بقلم: رائد دحبور

2017-12-04 10:14:00 PM
رائد دحبور

منذ انطلقت عملية التسوية عام 1992 بانعقاد مؤتمر مدريد، ومنذ انعراجها نحو منعرج تفاهمات أوسلو الثنائية بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينيَّة وإسرائيل عام 93، بعيدًا عن مسارات مدريد وكرودورات التفاوض الثنائي بين الوفود العربية وبين إسرائيل، كلّ على حدة، كان انعدام اليقين حول المؤدَّيات والمحصلة النهائية لتلك المرحلة من مراحل التحولات المنهجية في مسار الصراع العربي الإسرائيلي هو الملمح البارز لكلِّ من كان يرقب تلك العمليَّة، والتي وصِفَتْ بعملية السلام، ذلك الوصف الذي كان مُفْعَمًا بالتوقعات القائمة على أساسِ الافتراضات واليَنْبَغِيَّات التي استندت واتَّكَلَتْ فقط على الثقة بالرِّعاية الأمريكيَّة لتلك العمليَّة وعلى الإيمان بالوسيط الأمريكي، دون أنْ تستند إلى أيِّ التزامات أمريكيَّة واضحة ويقينيَّة ودون يقينٍ أو ثقة بأنْ تلتزم إسرائيل بأيِّ مواعيد زمنيَّة لتنفيذ استحقاقات ما اصطلح عليه بالمرحلة الانتقاليَّة، ومن ثَمَّ المرحلة الدَّائمة كآليَّةٍ دبلوماسيَّة اسْتُخْدِمَتْ مُسَوِّغًا لتأجيل قضايا الصراع الجوهريَّة المتصلة بمناقشة مسألة الحدود ومستقبل القدس وحق عودة اللاجئين وانبثاق الدولة الفلسطينيَّة السياديَّة المستقلَّة.

 

وتلك كانت عناوين مؤجَّلة أعطت مُنَظِّري تلك المرحلة من الفلسطينيين هامشًا من الوقت وإطارًا نظريًّا لتبرير اندفاعهم نحو إبرام مزيد من التَّفاهمات الإجرائيَّة مع الجانب الإسرائيلي والتي لم ترقَ قط إلى مستوى المضمون الحقيقي لمفهوم الحقوق السِّياسيَّة. لكنَّها أفرزت جملةً من المفاهيم السياسيَّة المتصلة بواقع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزَّة، تلك المفاهيم النظرية التي ليس لها واقع إلَّا في حدود ما تفرضه وتسمح به الوقائع والإجراءَات الإسرائيليَّة على الأرض.  

 

ربَّما كانت إسرائيل واضحة حيال كل ذلك – خاصَّةً حيال المواعيد الزَّمنيَّة والالتزام بإمضاءِ التَّعاقدات الثُّنائيَّة مع الفلسطينيين، ومن ثَمَّ استغلال الزَّمن في فرض مزيد من الوقائع الجيوسياسيَّة والدِّمُغرافيَّة المُسْتَحْدَثَة،  وذلك عندما قال إسحق رابين وأعلن في أكثر من مناسبة وواصل القول ومنذ أيلول عام 1993: أنه ليس ثمَّة مواعيد مقدسة في عمليَّة السلام، وأنَّ إسرائيل ستواصل التَّمسك بالاستيطان الأمني الحيوي بالنسبة لأمن إسرائيل في محيط القدس وفي الأغوار وفي الكتل الاستيطانيَّة الأساسيَّة على هضاب الضِّفة الغربيَّة، فيما ستكون مستعدة لمناقشة أو لتفكيك الاستيطان السياسي، الذي قام في الأساس لأغراض سياسيَّة تتصل باحتمال مناقشة مستقبل الأوضاع النهائية لأراضي الضفة الغربية عبر المفاوضات إمَّا مع الجانب الأردني أو الفلسطيني والتي من الممكن أنْ تؤدِّي إلى انسحابات إسرائيليَّة من بعض تلك الأراضي، وقد أعلن إسحق رابين –وبما له من حضور وكارزما- وفي وقتٍ مبكِّر من عام 1994 من على منصة الكنيست وفي معرض ردِّه على الصخب الذي كان يثيره اليمين الإسرائيلي تجاه تفاهمات أوسلو والقاهرة، إنَّ سقف الحل النِّهائي مع الفلسطينيين هو: لا عودة لحدود الرَّابع من حزيران عام 67، ولا عودة للاجئين، والقدس عاصمة إسرائيل الموحدة وإلى الأبد، وأنْ لا انسحاب من غور الأردن وأنَّ وادي الأردن بموازاة الضفة الغربية سيبقى الحدّ الشرقي لدولة إسرائيل، وأنَّه سيكون هناك في النِّهاية كيان فلسطيني أكبر من حكم ذاتي وأقلّ من دولة، فيما ستواصل إسرائيل السيطرة على المصادر الطبيعيَّة في باطن الأرض، ومنها المياه بطبيعة الحال، كما ستواصل السيطرة على الأجواء، وأنَّه لن يكون هناك جيشٌ آخر غير الجيش الإسرائيلي بين نهر الأردن والخط الأخضر، وأنَّ إسرائيل ستواصل محاربة النشاطات المعادية لها كما لو لم تكن هناك عملية سلام وأنَّها ستواصل عمليَّة السلام، كما لو لم يكن هناك نشاطات معادية. وربما كانت هذه العهدة التي تركها إسحق رابين في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، وفي أدراج المؤسسات السياسيَّة والأمنية الإسرائيليَّة هي من وجهت وتوجّه حتَّى الآن دفَّة السياسة الإسرائيليَّة تجاه الفلسطينيين وتجاه النشاطات الاستيطانيَّة التي استؤنفت منذ عام 2004 –تاريخ الولادة الجديدة لحركة غوش إيمونيم الاستيطانيَّة– وازدادت منذ عام 2011، واستفحلت على نحوٍ طاغٍ منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة في عام 2015.

 

وقد صار الاستيطان اليوم هو العنوان الأبرز للسياسة الإسرائيليَّة، وهو يُشكِّلُ الآن ما يمكننا تسميته –أو كما يسميه اليمين الإسرائيلي– انبثاقًا لإسرائيل جديدًا ومرحلةً من مراحل مواصلة حرب استقلالها في الجزء الأهم من الأرض التي تشكل جوهر العقيدة والمضمون الآيديولوجي والدِّيني لحركة الانبثاق القومي اليهودي، الذي مثلته الحركة الصهيونيَّة نظريًّا منذ عام 1822م، وهو تاريخ بدء طلائع الهجرات اليهوديَّة الأولى، ومثلته واقعيًّا منذ مطلع القرن العشرين تاريخ بداية المشروع الاستيطاني في السَّاحل الفلسطيني، والذي امتد بعد عام 67 إلى عمق الأرض الدِّينيَّة المُشْتهاة في القدس وعلى هضاب الضفة الغربية؛ وبحسب ذلك الفهم المتصل بجوهر المفهوم الأصلاني للاستيطان، والذي يطغى الآن في أوساط الطبقات والمكونات السياسية والاجتماعية اليمينيَّة الإسرائيليَّة، فإنَّ هذه هي إحدى مهمَّات الحركة الصهيونيَّة التي لم يتم الانتهاء من إنجازها بعد، والتي ستنتهي بإقامة إسرائيل على كلّ أرض إسرائيل التوراتيَّة التي في القلب منها (يهودا والسَّامرة – القدس والضفة الغربيَّة) والتي دونها، وفق تلك الرُّؤية، ليس لإسرائيل أّي مضمون، ونجد الآن وفي سياق هذا الجو المفعم بالاستيطان واليمين والثيولوجيا الدِّينيَّة؛ أنَّ بقايا اليسار الإسرائيلي أصبح يستخدم كثيرًا من مفردات اليمين والمستوطنين في التعبير عن ذاته وفي سبيل بقائه على الخارطة السياسية والاجتماعية الإسرائيليَّة.

 

والمحصلة أنَّ إسرائيل تسيطر الآن بشكل مطلق على 85% من أرض فلسطين التاريخيَّة، وتسيطر على أكثر من 80% من مصادر المياه المتدفقة في الضفة الغربيَّة، وعلى 90% من مساحة الأغوار، ولمْ يبقَ فعليًّا للفلسطينيين من أراضي الضفة الغربية بعد ضم الكتل الاستيطانيَّة التي شملها جدار الفصل والضَّم سوى 15% فقط. وهذه المعطيات كان قد نشرها جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني قبل سنوات من الآن، فكيف هو الحال اليوم إذًا؟!.   

 

بعد بضع سنواتٍ من بدءِ عملية التسوية، وبحلول عام 2000 صار العالم معتادًا على سماع عبارة السلام في الشرق الأوسط لدرجة أنَّه بات من شبه المنسي ذلك التاريخ القاسي والمرير الذي سبق تلك العمليَّة.. كتب هنري كيسنجر ذات مرَّة تحت فصلٍ بعنوان الصراع العربي الإسرائيلي، وواصل القول: في ظروفٍ تصطدم فيها طموحات المطالبة بأرض الأجداد القديمة بمقاومة أولئك الذين عاشوا هناك في الفترة الفاصلة –ويقصد كيسنجر هنا الفلسطينيين- يصعب إيجاد أساس مشترك للحوار ويلوذ كل طرف إلى المراوغة عند محاولة تعديل معتقدات الأجداد.. تحتاج المفاوضات العربية الإسرائيليَّة إلى التوفيق بين القضايا الإقليميَّة والاستراتيجيَّة –أيْ مادَّة الدبلوماسيَّة ومسائل الآيديولوجيا والدِّين والشرعيَّة– أيْ مادَة اللَّاهوت.. يُطالب العرب إسرائيل بالتَّخلي عن الأراضي المحتلة، وهو شيء ملموس، في مقابل الاعتراف بحقها في الوجود وهو شيء يمكن إلغاؤه. وتكافئ نقطة الانطلاق لمعظم المفاوضات -قبول الوجود الشرعي للأفرقاء- المحصلة غير المؤكَّدة لدبلوماسيَّة السلام العربية الإسرائيليَّة.

 

هكذا إذنْ نجد هنري كيسنجر، على سبيل المثال –وهو أحد مكوِّنات ودالَّات وأساتذة مدرسة الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة– يشرح دبلوماسيَّة السلام الأمريكيَّة، على نحوٍ يؤكِّدُ النتائج والمحصِّلة غير المؤكَّدة لتلك الدُّبلوماسيَّة. لكنَّه يدرك تمامًا، وكما كانت وما زالت تدرك الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة أنَّه في الوقت الذي أدخلت فيه تلك الدبلوماسيَّة العرب والفلسطينيين في مرحلة انعدام اليقين والانشغال بمفاهيم سياسيَّة واصطلاحات ليس لها واقع؛ كانت إسرائيل تدخل مرحلة اليقين والثقة بإمكانيَّة انبثاق إسرائيل جديدة مع كل الأرض التي اشتهتها ومع كل مضامينها المُفْعَمَة بالقوميَّة والدِّين. وها هي الآن ومع انبثاقها الجديد في المناخ المُفْعَم بالضياع العربي وبعد مرحلة الرُّبع قرن عملية السلام الأمريكيَّة تجد لها حاضنة عربيَّة وشرق أوسطيَّة لم تكن لها في يومٍ من الأيَّام !!.