السبت  20 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نجلاء .. عذراء المواسم لـ: ناصر الريماوي

2014-11-17 09:58:11 PM
نجلاء .. عذراء المواسم
لـ: ناصر الريماوي
صورة ارشيفية

قصة قصيرة

"مهران"... كان الأصغر بين شبّان الحصيدة، والأعزب الوحيد... يغني لسنابل القمح بمنديل حرير معقود لفقته لنا الظهيرة بعرق  جبين راعف ينز على بيدر ليس له، في حين لم يلتفت أحد لتلك العجوز عند سقيفتها المتداعية على طرف القرية وهي تمعن في الوجوه حين تتسول أمام ساحة *"البدّ القديم"، حتى لمع سن "نجلا" تحت ظل ابتسامة عابرة فأشعل الساحة، كانت غضّه، تعبر مسرعة برفقة أمها التي أودعت نذرها الأخير في جوف بئر مهجورة، خلف تلك السقيفة، عرفتها العجوز على الرغم من لثمتها المسدلة على غرّة الجبين والوجه، لمحت تحتها تلك "الدمامل"... وهي تبصق في وجه الصبية !

 ركضت خلفهما وهي تصيح في فزع : الصديد يبتلع ما تبقى من وجهها، أين استدارة البدر،

 كيف غفلتم عنها كل هذا الوقت...؟!

- لم نترك مقاما لولي  إلا وزرناه... او مزارا الآ ودعونا لها بالشفاء عنده، ردت عليها أم الصبية بيأس وحزم ...

علا صياح العجوز وهي تتفرس في الوجوه: أليس بينكم من شاب أعزب ينز منديله بملح عرق الجبين، ليرد به الطفح عن وجه هذه الصبية؟! ليرد لها استدارة البدر من جديد...!؟

من لا يعرف "نجلا" فقد فاته الكثير... لا زالت توشوش لنا بسرّها سنابل القمح في البيدر القبلي، تزفها بلوم لنا مع رياح المواسم، كم مرّة تخطتْ وصايا عجائز القرية،  بأن تحذر، ولا تغالي حين تبتسم...! فثغرها يفتر عن ضرس ذهبية لفظته الشمس ولا بد لها أن تستعيده، وبأن النهار محرّم على "نجلا" فشمسها تنهب الطرقات وتندس بين حجارة "العقد" لكل بيت، وبأنها إن عجزت، سترسل عيون الرجال في إثرها...، وحدها عيون الرجال، من لها القدرة على اقتلاع ضرس الشمس من عقد "نجلا"...، وان عليها أن تداري كحل جفنيها عن أعين الجميع، وأن تطوي عودها الذي شق بيادر القرية في غفلة من شبّانها...، أية غجرية مرّت ذات يوم من هنا، لتزرع ابتسامة ساحرة على ثغر طفلة بضرس كهذا، دون أن تكترث للعاقبة؟

وأم "نجلا" تضيق ذرعاً بهمس خفي يتصاعد... ولا تتوانى تؤكد، لكل النسوة في كل البيوت، وهنّ يجدلن صواني القش أو ينتظرن عصر الزيتون في ساحة "البدّ القديم" ... بأن "نجلا" لأكبر أبناء عمومتها، وبأنه قد اصطفاها خليلة منذ أن وُلِدَتْ مكتحلة، وبأن الجنّ من عمّدها بعتمة البراري في تلك الليلة حين أنجبتها بلا "داية"...

حدثنا ونحن نلتف حول جمر الحطب بذاكرة خصبة لكهل جاوز السبعين، ولكن بقلب طفل : "نجلا" حكايا حزيران على قش البيادر، حين تبتسم... يبرق ثغرها، ليضيء بيارات بعيدة في حضن يافا، وبحر مالح يربض خلف تلك التلال في حيفا! الليلة... سوف تبزغ سقيفة "البدّ القديم" بين مزارع الدرّاق، حيث نحن... وسوف نصغي لزغرودة النذر الوحيدة تتردد في جوف بئر مهجورة اطلقتها أم ليلة زفاف ابنتها منذ خمسين عاماً... يقولون هذا موعدها، وسوف تمرّ بنا عجوز محنية الظهر، ستسبقها التجاعيد وقد تقفز عن وجهها المتغضن نحونا، فلا يجزع أحد! عكازها ... بقايا كسوة عروس "مشنشلة"، عصمليات  ومخامل... مصري وكستافي، وليرات ذهب، الحانوت النابلسي ضاع اليوم بين تلك التجاعيد فغاب زفافها حتى يومنا هذا...!

لسعتنا دمعة مباغتة، سالت على وجنتيه، لتستقرّ بين تجاعيد وجهه النافرة، ابتلع حرقتها أمامنا ليواصل: كانت "نجلا" شمسا ثانية... حتى رشقتها النجوم بالثآليل وطفح السّهر، لتذوي في حضن حزيران، والداها تبادلا جريرة الّلوم، حين أنكر عليهما أكبر أبناء العمومة فعلتهم تلك: ما كان ينبغي لها أن ترافق أحدا إلى بيادر الحصيدة، البيات  في مطلع الصبا لفتاة تحت سماء بيدر تطرز النجوم، أمر تحفه المخاطر، بينما هي تقسم بأنها لم تذهب بعيداً في سهر الحصادين، ولم تحدّق في السماء لتحصي عليها النجوم.

 تمر الليالي على غلة بيدر مكلوم، سبلاته الذهبية تلمع وتقارع الريح، لكنه مهجور بلا سواعد تعصف بمنجل او مذراة، والبثور تتكاثر، يسحّ قيحها ... والثآليل تلعق البياض عن وجه الصبية...! أعيتْ ذويها وصْفات العطارين ومراهم الأعشاب المنقوعة بزيت الخل، والحسرة على غلة في مهب الريح بين بيادر القرية. رحلتْ برفقة والديها طائعة، بعد أن تخلى عنها أكبر أبناء العمومة... وأصغرهم، قالوا جهارا: لم تعد لأحد، ليس بيننا من له القدرة على احتمال أمر كهذا... هي حرّة؟!  رافقت والديها إلى مزارات قريبة لأولياء الله الصالحين، طرقوا بوابة الخليل نحو "بلوّطة" الانبياء في ساحة الدير... و "المسكوبية" دير حنون وظل ظليل لا يخفى على احد، ثم إلى القدس... وحاراتها، في حي "المغاربة" ترجلوا قاصدين جدرانها القديمة، ضمتهم "دار الرمانة" وظلال الشجرة الوحيدة... رمانة الأولياء المعمرة، عبروا نحو مقام الشيخ "عيد" ذرفوا دمعهم على جدرانه المزخرفة بالآيات، ثم توسلوا إليه ان يرأف بحال الصبية...، ولماّ رجعوا كان بيدر القمح بلا سنابل، جمعت غِلالهُ "فزعة" السواعد، حصدت ذراريه وخبأته هناك، هوى أباها على تلك السواعد السمراء يلثمها بفرح، وراح يهتف بامتنان...، تلاقيا بترويدة الحصّادين آخر النهار، ثم علا بينهما الهتاف : يا معلم... حلْنا ...، ليرد عليهم : حالف ما احلكُمْ... لحتى يميل ظلكم...، يرددون بابتهاج : ظلّنا ميّل ومال ... واعتلى روؤس الجبال.

فاض وجهه الغائرعلى وهج الجمر، وكأنه يستعيدها الآن بيننا، سكت قليلا، تحسس جبهته ثم قال: سواعد أبناء العمومة تخلت عن فزعة البيدر أيضا... حين لبى الجميع، كنتُ فتياً بسواعد غضة بين الكثيرين، وكنتُ كلما نضح العرق جبيني، أشد عليه بعصبة المنديل... ولا استريح!

وجه "نجلا" ظل معتما بالصديد، تنخره الثآليل، وأكبر أبناء العمومة ... تحرّى الزواج من صبية أخرى، ليلة زفافه... سكن اليأس إلى جانب غصّة حارقة صدر والديها، ونجلا ساهمة يلفها صمت مميت، ولم يبق الا النذر... تطوعت أمها لتقصد بئر القرية المهجور، نذرت أن لا تطلق زغاريدها إلا فيه إن شفيت ابنتها وحلّ زفافها.

لأيام والمرأة العجوز "المتسوّلة" تخطف منديل "مهران" الراعف بعرق الجبين وتمسح به وجه "نجلا" أمامه... و"نجلا" تسلبه شيئا يسيرا من عقله وقلبه في كل مرّة !

 استعاد وجهها ذلك الصفاء القديم مع الوقت، لكنها لم تتعظ مما جرى... ولم تتوانَ، وعادت ليفتر ثغرها ككل مرّة عن ابتسامة ذهبية، تضيء السواحل البعيدة، في وضح النهار.

زُفّتْ لمهران بكسوة "مشنشلة" حملتها إلى جانبها على هودج يقود قافلة صغيرة نحو مخدعها الأخير، وأوفت أمها بنذرها الوحيد وأطلقت كل زغاريدها في جوف تلك البئر خلف سقيفة المرأة المتسوّلة.

عند منتصف الطريق توقف الهودج، توقف معه كل شيء، السحجة، مواويل الميجانا والعتابا... والناس، حين قفزت نحوها سواعد أبناء العمومة وأمام الجميع... لتحول بين قلبين لعروسين لم يلتقيا بعد، سواعد آثمة انتزعتها عن هودج العرس لتلزمها البقاء لدهر طويل، بيت والديها، لتغني الفصول مواويل أعراس كثيرة تلت، لتبقى "نجلا" بينهن أحلى العذارى...

  - تلك السواعد جاحدة... لم تكن بين فزعة البيدر، لكنها حالت بيننا... لخمسين سنة وحزيران يقلب المواجع بيننا...، / حدّق في وجوهنا على وهج الجمر قبل أن يتم حديثه / : بالأمس فقط ... مات آخرهم، ولم يبق من ابناء العمومة من يحول بيننا...،  ثم تحامل على نفسه وراح يلم بقايا قامته النحيلة المتهالكة من بيننا ليمضي، من بعيد كنّا نلمح شبحين لعجوز محنية الظهر وكهل يتداعى، تلاقيا... وكأنهما على موعد بين أشجار الدرّاق، على زغرودة وحيدة، لم تدم، شقّت ستائر الليل لتخمد في جوف بئر... تعانقا طويلا، ثم اختفيا.