الحدث- علاء صبيحات
عُش الدبابير لا يستقبل ذبابا بداخله، لم يعتد على ذلك الطفيلي في عشه، والمصيبة أن مدينة الذباب تعرف حدود عش الدبابير وأحيانا يدّعي الذباب أنه دخل عن طريق الخطأ للعش مستغربا أن الدبابير هاجمته!
الشارع القصير الذي يفصل الحارة الشرقية في مدينة جنين، عن سوق وسط البلد، يبدأ مطلعه يسارا بمدرسة فاطمة خاتون ويقابلها في تماثل تاريخي ..أقدم أو أحدث بقليل.. مسجد جنين الكبير، يمتد صعودا ليّنا -على غير العادة- إلى ميدان يفصل ذات الشارع عن شارع المكتبات، دخلته عربة لجيش الاحتلال فيها مجند ومجندة ..عن طريق الخطأ كما قيل.
على طرف الشارع هناك مقهىً شعبي جلست فيه كثيرا، يُطل بشبابيكه المُتسخة من أثر الزمن على واقع لا يعلم تفاصيله إلا من كان له نصيب العيش في جنين.
المفارقات بهذا الدخول العجائبي كثيرة كالعادة، فالميدان الذي يتوسط الشارع محفور عليه أسماء لشهداء قضوا إلى ربهم إبان الانتفاضة الأولى والثانية، والشارع مليء بأسر الشهداء ليس لشيء سوى أن مؤسسة أسر الشهداء على أحد جوانبه.. الشارع الذي لا يسكنه إلا أهله وقع فيه اشتباكات مسلّحة مع قوات الاحتلال في الانتفاضة الثانية وسقط فيه شهداء.
الشارع رغم كونه مرصوفا بالإسفلت والذكريات لكنه وعر جدا على من لا يعرف مطباته التاريخية، وسكان المدينة لا يرحبون بأي ضيف عبثي فيه، فليس كل الضيوف لهم حق الصعود إلى عتبة التشريف.. فمن يتهجم عليهم ليلا ويزورهم نهارا عليه دفع ثمن قذارة لسانه ويده..فلا استقبال للشاتمين والشامتين في عش الدبابير.
والغريب أن القاتل النجس يريد الدوس على بقع الدماء المتأصلة، ونبش عش الدبابير الذي آلم كبرياء الذبابة القاتلة ..دون أن يعترض الدبابير على شيء مما سلف ظنا منه أنه سلب العُش سُميّته.
رغم بعد المدينة عن الانتصارات المزعومة وسط أجواء الصراخ المحتدم، وكرهها أصلا للصراخ، وانشغال أهلها عن كل شيء باستثناء الوطن، إلا أنها لا تستقبل صفعات على قفاها دون أن تشعر، هي سهلة الغضب كثيرة الإنشغال صعبة الإشتعال لكنها قبل كل شيء عش الدبابير.
كتلة منسية في السراب تراها ولا تراها على يسارك صاعدا في هذا الشارع جميعا من بابه لمحرابه وأكثر، جنين القديمة ..جنين ما قبل القسّام.. التي تُسمّى "السيباط" فيها سوقها الخاص بها وزبائنها الدائمين ذاتهم، ومقاهيها الهادئة بروادها الصامتين عن قهرٍ عشعش في جدران صدروهم كالخيوط الخضراء على جدار صخري الملمس أثري المنشأ.
لا يدخل السيباط أحد بالخطأ لأنه سيتوه أياما هناك دون العثور على المخرج، فلا علامات فارقة ولا أشخاص يتحدّثون للغرباء، رحابة صدرهم انقضت قبل انقضاء الإنتفاضة الأولى في أواخر الثمانينات لكن تاريخها يمتد لأعوام كثيرة جدا ..حتى قبل دخول الصهيونية إلى الأرض المقدّسة بكثير.. وحتى قبل مؤتمر بال الأول الذي أعلن نية الصهيونية المبيّتة لـ270027 كيلومترا مربعا بطهارتها وطهارة قمحها.
لا رهانا رابحا على جنين، هي مدينة لا تدجّن ولا تقنّن، لا أمرا واقعا يُفرض عليها، ولا ينام فيها خائن مرتاح أو عدوّ غاصبٌ، جنين مدينة صامتة .."والخوف من الساكت".