الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

آلهة، مطر ونرجس بقلم: إيناس عبد الله

2014-11-25 01:08:31 AM
آلهة، مطر ونرجس
بقلم: إيناس عبد الله
صورة ارشيفية

 دفتر ملاحظات

مثل طفل يتعلم المشي، أتجول في حواف ذاكرتي الجوفاء، إنني أقف على قمة جبل، وأعد خطى بعل المطري، الإله المغروم، مطر يؤجج جمراً مخبوءاً، أنا التي تحمل الحرائق أينما تكاد تخطو، دون توهج قدسية النار، دون قبس، لكن بكثير من دخان الحروب.

مطر ودم على هذه الأرض، ترى أيهما أصدق؟ نهدي هذه الأرض خنجراً فتهدينا نرجساً، وشتان بين الذبيح وقرابينه العطرة، وبين اليد على الخنجر بعيداً عن القلب، من يوقف ميتنا على قدميه إذن؟ من يوقفنا على أن ننجب للمقابر وليس للحياة؟ مطر على أعشاش العصافير، كل من وما في الشتاء حزين، قلبي يرتجف من برد لا يخصني، هذا الضباب الملائكي ندنسه بحرارة جرح طازج، الجسد هو كبير المنشقين على هذه الأرض!

جدتي تطفو أمامي، توقظ في روحي رماد الفرن، ورائحة الخبز التي تحيي أموات المقبرة الكبيرة كل صباح، الحياة روائح، والموت زكام لا ينتهي! هكذا عهدنا طفولتنا الشتوية الطويلة!

وأعلق بين إبرة خياطتها وشفتيها، جدتي صنعت من الشتاء ملحمة طويلة، وحين عاد الصيف لم نعد نصغي، فعلقت الحكايا في الكهوف، حيث العتمة والبرد، إن نصفي الآن بشري ونصفي الآخر رحيل، وأنا آتيها بنصف كل شيء، كانت تحكي عن الأقدار المقلوبة، المزحات الإلهية التي إن تكاثرت على المرء، فهذا يعني أن العصيان سماوي هذه المرة، ولطالما عرفت أن قدر الجميلات أخرق دوماً، حتى قبل أن يكدن له!

أن تعود للبيت، هذا يعني أن تمر بذاكرتك والمقبرة، وكل أحزانك المكدسة في القبو أولاً، ثم تدخل غرفتك الفانية، فتتذكر أنك أحببت، ونمت باكياً مجرجراً وراءك قبيلة ممن لا يفقهون في الحب شيئاً، وأنك جربت السيجارة راجفاً، وكدت تحرق الفراش كرمى للنزوة الجديدة، وأنك قرأت كتباً خطرة على العقل تماماً مثل نزل ملغوم بالكوليرا، وأنك اكتشفت الشهوة مثلما تكتشف جثة على عتبة البيت بكل الرعب والإثارة الممكن تخيلهما!

ثم تـأتي تباعاً رحلات الفقد، وقطار الموت الذي توقف في محطة العائلة، وكيف أن الموتى لا يودعون أحداً، بل يحتاجون وداعنا الطويل، ثم تجد نفسك كائناً جديداً، كل ما فيك مصقول، عدا حفرة هائلة في صدرك يستحيل أن تطمرها وفيها كل هؤلاء الموتى والأحياء، وكل هذه النزوات الطارئة والطويلة، والأمكنة الحقيقية والمتخيلة والمترنحة في ذاكرة تلو أخرى.

وفي النهاية تمشي لتجد لك متكئاً على دغل نرجس يترنح من سكرة المطر في الجوار، النرجسة البيضاء مثل فم ينتظر قبلة، والساق الخضراء حكاية شتاء، لإله مهزوم بهتت قرابينه، ونأى عنه المؤمنون إلى شياطينهم!

القوة في هذا العالم أرضية، وللسماء شؤونها الخاصة، لم تعد جدتي توقد نار الفرن إلا في روحي، وغرفتي أغلقتها كما أوصد باب مشرحة خلفي، وقطفت القبل البيضاء الثملة ووضعتها في مزهرية باردة، وحنطتها في تابوت الوقت!

أن تعود لا يعني أن تبدأ من جديد، يكفي أن ترجع لتمسك طرف الخيط، لا أكثر!