الأحد  05 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كرمل 101 لـ الكاتبة: نداء عوينه

2018-03-09 12:25:15 PM
كرمل 101
لـ الكاتبة: نداء عوينه
لوحة: قصي ابو عامر

تعالَ إلى قلبي أواريك الوريد

تعالَ لأحملَ قلبَك المفتوح عنك

 وأعطيكَ نبضي الغض بدلاً

تعالَ خذْ شَعري غوى

 وخذ إنْ أردتَ أصابعي

 وخذني إلى عتبات دارِك وآنسني

 سمّني مرآتك الأولى، وشيطانك الآخِر

 وارسم على جِلدي ما استطعت

من وشم العارفين

مثل السماء تعالَ إليّ لتغمضَ روحك

تعالَ إليّ أعدّ قلبك

ربيعًا ربيعًا

تعالَ إليّ لأحملك...

 

 

عزيزي كرمل

أنا تعبت،

هذه ليست رسالة وداع، ولا رسالة عاطفية، ولا رسالة انتحار، رغم أنها قد تبدو كذلك. ليس هذا سوى أنني أذكر يوم جلسنا على ضفة المقهى، واقترحت عليّ أن نتبادل الرسائل هكذا.

 لم نتبادل أية رسالة وقتها، لكنني أبدأ الآن...

لا سيلٌ من المشاعر يجتاح قلبي، ولا قطار من الأفكار يؤرقني، ولا انتباه إلى قواعد النحو والصرف يعنيني ولا أي شيء.

جلّ ما في الأمر، أنني تعبت.

دمت بودّ

 

عزيزتي،

لا تخذلي هذا التعب.

كرمل

***

أنا ابنة السنن الرديئة

يوم ولدت زغردت جارتنا العجوز، ويوم رأتني بكت، فلُعِنتُ بسبعة قرون من وهن، أُعِنتُ عليها بسبعة آلاف خطيئة. لم ينكرني الخطّاؤون من أشباهي، لكنني كلما أفرطتُ في حزني توضأتُ بالحياد وتطهّرت ببركات أبي.

أنا ابنة السنن الخطيئة

أبي شيخ المسنين، كان حطّابًا يستبيح أعشاش العصافير من أجل قوتي، ويبكي دم الإناث الصاغرات الباحثات عن الغوى في الأقداح المكسورة، إلى يوم أن صلّت عصفورة تداعى المرض في جناحيها لينقذها من بطش فأسه، فصار أبي بائع تفاح بألف اسم وحكاية واحدة عن رجال سبعة، كانوا في منتصف الموت سيوفًا لي وقلوبًا عليّ.

هكذا عرفت أنني ابنة السنن الرديئة، صرت أدرك المعنى المبتور في الغزل الإباحي، وأصبه في أقداح كثيرة تجعلني أحب الورد وأقوى على قتال ألف نبيّ وألف قرن من خرافات العجائز الباكيات.

أنا ابنة السنن الخطيئة، كلّ العشاق أحبائي، يقتات الموتى من جسدي وعلى وجعي تتناوب أفواه الثملين، كل سكارى الأرض أحبّائي، إلّاي، فهذا القدح المنداح على قلبي يفقر لغتي، ينقصها مفردة مفردة حتى أدرك أنَّ المسمار المزروع برأس القلب صدئ، وأنَّ هذا الوهم برأسي ليس سوى حاجة للعناق.

 

***

أبي الذي سمّاني قلقه الوحيد،

قال: أعيش بك ما كنت أحلم

لم يعرف أنني بعده

أبحث عمّن يسميني الحلم الوحيد

ويعيش بي ما كان يقلقه

 

أبي الشيوعي الوحيد

في وَهْمِ ما بعد الحداثة

سمّاني اسمه الحركي

ولم يعرف أنّه أورثني

كلّ هذا التوحّد

وكلّ هذا القلق

***

***

أنا وأنت قطعتان من زجاج، نجونا صدفة من حجر رماه ولد مشاغب، فسقطنا بعيدًا عن المجاز، لا نريد العويل، ولا إدراك المعنى، قطعتان من زجاج متجاورتان ومتثلمتان كخيارين خاطئين للصيرورة.

أنا وأنت قطعتان من زجاج، نجونا صدفة من حجر رماه ولد مشاغب في السماء، فسقطنا بعيدًا عن الوجع العاري، نعدّ أصابع الليل والمفردات والأبواب الموصدة.

بقيت أستتر بك من المعنى الحقيقي للوجد وأداريك من حروب الحرف الثمانية والعشرين، إلى أن مللت.

لا يهمّني، قربك، إنْ أخطأت في تعداد الأبجدية، أو إنْ شعرت برغبة في الانفجار.

لا يهمّك، قربي، إنْ وقفتَ على حافّة الشّعر، أو إنْ وقعتَ رغمًا عنك في شباك اللغة والأجناس الأدبية.

تقصّ لي حلمك بأن تصبح ذرة غبار كونية على سفح جبل مطلّ على البحر في ليلة قمرٍ بدر، وأشهد على حلمك لأقول: إنه منذ الآن صار.

هكذا نحن، أنا وأنت، قطعتا زجاج، مهملتان، تركهما الكون لبعضهما، صدفة، وأطلقت الحرب سراحهما، ليكونا معًا غريبين ومنفردين.

 

***

 

قلبي نائحة حمقاء

ولهذا أكتب عنه

قطعة خشب تحت المنشار

شيخ يتوضأ بالطين

راقصة شاخت قدماها،

تتلوى روحها رغم الشلل

جهلي بطل الحكاية

ولهذا يكتب عنّي

أني نائحة حمقاء

قطعة خشب متفحّمة في الموقد

بنت جرحت ركبتها

راقصة تتمايل قبل غروب العمر

قلبي لا يعرفني، يعتقني

جهلي لا يعذرني

ولهذا يقتلني

***

يهتز المبنى، ترتج الطاولة،

تسقط قضبان المعنى من سقف الغرفة

يقفل، يفتح هذا الباب الخشبي المربك

حتى الصيف شتاء في هذا البلد المخدوش الوجه

ينزف جفن البلد الدامي، تنزف عيناي المغلقتان

تتكور صاحبتي في زاوية الكرسي المتطاول

تتحدث عن جسد يجمعه خيط متهالك

يتداعى خيط يجمع جسدي عند سماع القصة

يبدو أنَّ صديقة قلبي كانت يومًا ما شجرة

نبتت في مبنى مهجور

نسجت عشًّا لثلاثة أزمان مختلفة

زمن للحب المتوحش في غابات الأرض العذراء

زمن للتاريخ المنسيّ وراء الباب المنسيّ وراء التاريخ المنسيّ

زمن للأسطورة، والقصص المدفونة تحت ركام الوقت

يهتزّ المبنى المهجور

تتكور صاحبتي في زاوية الكرسي المتطاول

تنزف عيناي المغلقتان

ونعدّ برفق جسدينا المنفلتين

كلٌّ منا تبحث عن حبكتها للكون المربوط بخيط متهالك.

***

كم مفردة للوجع؟

ألم طفيف في المفاصل، حرقة في الخاصرة، قبضة في القلب، ضيق في النفس، غمامة على الرؤية، غباش في السمع...

لم يعد يكفني هذا القلق

أريد وجعًا يكفّنني، أريد وجعًا يذكّرني بفحواي كي أختنق

أريد وجعًا كاملاً ينزّ ضعفًا ولذة

أريد أن أعرق، أريد أن أقع،

أريد سببًا كافيًا للانتهاء في غرفة للطوارئ

أن أخاف الموت لحظة

أن أسلّم أمري لانتهاءات الحياة

أريد موتًا كافيًا

أريد وجعًا يذكرني بفحواي

أريد موتًا يقولون بعده

هي المرأة التي تطعم

هي المرأة التي تحب

 

لا أذكر وجهه حين رأيته آخر مرة. كان في الكفن، كانت رائحته موتًا. يا رائحة الموت التي علقتِ بجسدي، وفي طبقات فمي، في حلقي في أرغفتي كلما اشتريت الخبز ساخنًا، يا رائحة الموت، لماذا عدت إليَّ الآن؟

 

عندما أموت، أي بعد دقائق،

لا تتركوا جثتي وحدها،

خذوها إلى معهد الطب

استأصلوا كبدها والكليتين

لا تتركوا جثتي لرائحة التعقيم

والأكفان البيضاء

أعطوا نخاعي الشوكي لطفل في الخامسة

ونخاعي العظمي لأم مريضة

وخذوا دمي لبنت يتيمة،

جفّ وريدها حزنًا

أمّا قلبي، فلا تقطعوه

ادفنوه مفردًا وكاملاً

كما هو

لعلّه يتخلص من حموضة

هذا الحنين

 

ملاحظة: إنّ انعدام الدقة العلمية لهذا النص لا يعني كرمل بشيء، فالعلم بالنسبة له، مسألة نسبية لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد.

 

***

كلام العشاق يا صديقي

خارطة طريق إليك

أما الورد والأغنيات

فطريقة قلبك

صدق فقط إنْ أردت

أن هذه البنت التي

أتعبها الوجود

والحداثة

وقيم الحق والواقع

لا تريد سوى

أن تختفي

لتكون قطرة ماء

على شفتك

 

***

اثنان وعشرون رجلاً

وسبع غانيات ثَمِلات

ذهبت كلٌّ منهنّ وحيدة إلى منزلها

لأنَّ أحدًا منهم لم يعرف

أثر الأرقام السحري لنسبة پاي

 

***

أحببني بضع دقائق قبل الموت

أنا الفأر الذي تمخض عنه الجبل

لماذا تعبت أمي تسعة شهور عبثًا؟

لماذا ضجّ البيت الأسري الهانئ بقدومي؟

لماذا كثرت أكوام الفستق والحلوى في زاوية البيت؟

هل سيضجّ البيت الآمن حين أموت؟

 

أحببني بضع دقائق أخرى حتى الموت

حبُّك، يا وجعي، يشبه موتي: مُحكَمٌ ومحتّم

حبُّك كارنفال من حلوى ملونة

وشبرات ملونة

وخيمة مزركشة أخلع تحتها ما زاد عني من ضعف

ومن ثياب

موتي حفلة رقص تتبدد فيه الشهوات

ولعنات الدنيا

وملح خطايا الأبدية

موتي مثلُ حبِّك

احتفال يخلصنا من هذا الوعي الهادم لـلذات

***

يدك على قلبي ضربة مسمار

يدك على وجهي ثقب في ذاكرتي

أتهرب منه لأنجو من نفسي

يدك على بابي بابٌ أتسلل منه لأصغر أصغر أصغر ثم أطير فلا أنجو

 

***

 

هذا البرد الصاعد من أسفل ظهري حتى آخر عنقود في لغتي، يصغر حتى لا أعرف كيف أدفئه...

هذا البرد المخرز في كفي، يعرف أني لا أعرف كيف أدفئه...

هذا البرد الصامت في قلبي، هذا البرد الساكن بين أصابعه، يتسرب من خلف الشاشة، ليكون العذر الأقبح من صمتي الشرير

***

يتصادى شبحي في طرقات الأرض،

يسير شمالاً فيقف أمام شجرة عظيمة كان لها ألف فرع في السماء...

 

***

رأيت الليلة أني أنتظر

سبعون خيالاً يخرج من جلدي

فأصير خواءً

تتصادى كريات المعنى في داخل هيكلي الأجوف

تتهادى في روحي أحبال ضوئية

وأقول لقلبي: أينك يا الله

حلمت الليلة أني أندثر
أطيافٌ مثلي تتلوّى في ليلي
تتخلّق أشباهي السبعين
أشير بأصبع كفي
فيصير الوعي كواكب
تتدحرج عن قوس قزح
تتأرجح في زاوية الليل
تقول لقلبي: شكرًا يا الله

 

***

العاشق ليس نبيًّا يا كرمل؛

هذا ما قال الشعراءُ

العاشق ليل معجونٌ بثلاثة آلاف امرأة

العاشق بضعة أوجاع

وسرير امرأة جفّت منذ قليل

العاشق وجع مصلوب

صوت امرأة لا يسمعها أحدٌ

تتكوّر في زاوية البيت

تتخيل أشباهًا عدة

وتردّ بودّ مكسور

مثل شهود الزور

***

هذا الأرق الجنائزي الخفيف على القلب الثقيل على مدامع الوقت لا يقول إلا الشجن الموحّد في جهات الأرض...
لا يقول إلا الشكر لله الذي أعطاني القدرة لأقول هذا الكلام
وأهجس بالليل والبرد والحمى
وأهجس منذ مرور الوقت على باب قبرك
وأعرف من فوضاي نفسي
وأذكر هكذا، أني كنت يومًا ما
شبحًا لعينًا ناسيًا
هذا الأرق الخفيف على القلب
الثقيل عليك
يقول: إني بعدك
لم أكن يا أبي

سوى شبحٍ ثقيل عليك

 

أترى كلّ الميتين الآن؟ كلّهم يبتعثون في غرفتي. يعيثون الفساد في ما تبقى من وعيي المزيّف، هذا الوعي المتغيّر يا كرمل لعنة.

أتراهم كيف يعيثون خرابًا في المنزل؟ سيخرجون الآن، لن يتّسع لهم المصعد، سينزلون الدرج الأبيض، يتزاحمون، تتشابك أوجههم، تتشابك أيديهم، هم الموتى بلا أرواح، بلا حساب، بعثوا لأن خطأ صغيرًا صار في وعي، هذا الخطأ أحدث خللاً في ميزان الكون، بعث الموتى دون أرواح ودون حدود، هذا العاشق مات قبل حبيبته، هذا القاتل رجع؛ لكي يعتذر، هذي الأم رجعت؛ لتغني لابنتها أغنية النوم، هذا الوحيد عاد؛ ليقول: إنّه ليس ثمة أكثر وحدة من هذا العالم.

أترى كلّ الميتين الآن؟ كلّهم ليس واحدهم أبي… 

لوحة: قصي أبو عامر