الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المفتاح للقاصة: منى الشيمي

مصر

2018-03-24 01:29:23 PM
المفتاح
للقاصة: منى الشيمي
منى الشيمي

اتخذ جسدي وضعا جنينيا، خرجت منه مئات الإبر، كقنفذ يشهر خوفه في وجه الخوف، وتساقط دمعي ليبلل الوسادة، كانت عادتي المسائية، حينما يزورني الحزن، تهب الإبر من أعماقي، وأفقد الثــقة بكل البشر، تهب أحزاني القديمة، لم يحدث أن شعرت بوخز حزن واحد، بل كــل حزن جديد، كان إضافة لجــبل أحزاني، الذي كتب عليّ أن أصعــده لاهثة كل ليلة، وأتدحرج من فوقه كل صباح.

قابلتها في طريقي، عند اجتياز الممر الواصل بين مدخل البناية والشارع، ألقيت عليها تحية الصباح فلم تجب، تساءلت: هل كان فكرها مشغولا لهذه الدرجة؟ لم تنظر ناحيتي! هي التي تبادر دوما بالتحية، وددت لو أسألها، لكن موعد العمل جعلني أرجئ سؤالها لوقت آخر.

هي صديقتي المفضلة، تسكن في الطابق العلوي، تسمع صوتي وأنا أصرخ بأولادي كي يكفوا عن العراك، صوت الملاعق حينما أضعها في حوض المطبخ، صوت مياه الدش وهي تمحو إرهاقي اليوميّ آخر الليل، أسمع باب شقتها حينما تغلقه للذهاب إلى النوم، بعد أن تزوج أبناؤها وباتت وحيدة. كانت دوما تدق الجرس، تطلب مني نزع المفتاح بعد أن نسيته بالباب، تسأل عن أخبار الأولاد، عن فاتورة النور التي تركها المحصل بمشربية الباب، عن آخر أخباري، وعن السيد الحزن كما أطلقتْ عليه! طلبتها بالهاتف بعد عودتي من العمل، ما إن سمعت صـوتي حتى أصابها الصمت، لم تجب على حديثي بكلمة وتركتني أتحدث، لذا قررت أن أعيد السماعة إلى مكانها ودوائر الدهشة تلفني. ثم، اضطررت إلى اللجوء لجارتي الأخرى، التي تسكن في الشقة المواجهة، كانت دوما تحسدنا على تقاربنا، وكنا نضحك عليها كثيرا، نعيب عليها صوتها العالي، كلما عبرت صديقتي ببابها سمعتها تتحدث في الهاتف، تبث شخصا ما شوقها، ولهفتها لعودته، قالت صديقتي:

-"لا أسمع صـوتها إذا كان زوجها موجودا، ولا يدق لها هاتف!"

كنت أضحك، أنهرها برقة كي تكف عن التصنت على هذه الجارة، لكن فضولي لم يكن يمنعني من الاستماع إلى اكتشافاتها اليومية.

عندما ظهرت لي بعد أن دققت بابها طلبت منها أن تتدخل بيننا، لأعرف على الأقل سبب صمتها، سبب انزوائها في حضوري، وتجاهلها عبوري في محاذاتها، وابتلاع عبارة صباح الخير التي كانت تبادر بها، لكن الجارة تعللت لصديقتي بسبب لم يقنعني، قالت:

-"لا شيء يخصك، هي فقط تشعر باكتئاب بعد فراق الأبناء"

لم أقتنع، تزوج أولادها منذ زمن، شاركتها حالات اكتئابها الأولى، فلم تقصني عن حالات اكتئابها الأحدث؟ تساءلت:

- "كانت جارتي تجهز إجابة، هل تحدثتا معا؟"

حينما سمعت موسيقى البرنامج الذي تحبه رفعت صوت الراديو، كانت تأتي لنستمع إليه معا، وأحيانا كنت أذهب إليها، كي لا يفوتها اتصال أحد أبنائها في غيابها، تقص عليّ أخبار الجيران، جارتنا التي تسكن الطابق الأخير وهي تتشاجر مع زوجها، وهي تسبه، بل قالت لي مرة إنها سمعت صوت الصفعة التي رنت على وجه زوجها! ارتفعت الموسيقى، تعالى صوت المذيعة، خبايا وأسرار ليلية، صوت مألوف طالما استمعنا إليه معا، وضعت الراديو قرب النافذة علها تأتي، وانتظرت! لكنها لم تأت.

كان صمتها حقلا واسعا تنمو فيه أفكاري، هل فعلت شيئا يضايقها؟ هل وصل سمعها أي شيء عني يجعل من علاقتي بها أمرا شائكا؟ جالت أفكاري في أحداث الأيام السابقة، حاولت جاهدة استعادة كل لقاء جمعني بها، الموضوعات التي ناقشناها، الأصدقاء الذين تناولنا سيرتهم، الخبايا التي كشفناها لبعضنا البعض، لم جعلتني ألجأ لجارتنا كي تكون تتوسط بيننا وهي أقرب إليَّ منها؟ لماذا لم تقل لي سبب غضبها وتريحني؟

    لم أفلح في الوصول إلى سبب انزوائها مني أبدا، ربما هي مكتئبة كما قالت جارتي؟ لكن ما سبب تجاهلها لي! في المساء سمعت صوتها ينبعث من عند جارتي، وصوت موسيقى البرنامج يبدو عاليا، ظللت طيلة الوقت أتربص بهما، تخيلت أنها ربما ذهبت عند جارتي كي تضايقني. آه صوت أولادي يجلجل في أذني، يعوقني عن وصل حلقات أفكاري بعضها البعض، كنا نلتقي للحديث عن أخبارنا وأخبار الجيران، ترى هل تتحدث مع جارتنا عن أخباري؟ سخونة تنبعث من وجنتي، وتساؤل حائر يتجول داخلي، لـِمَ تتعامل معي بهذه الطريقة؟ تتعمد أن تشعرني بالتجاهل، صعدت إلى السطح، تتبعت مسار سلك الهاتف الخاص بي، إلى أن دخل شقتي، تأكدت تماما أنه غير مقطوع، لا يمر على أحد قبل وصوله، لا تتسرب منه أسراري، شعرت بألم في كل جزء من جسمي، يتحول قلقي إلى ألم إذا تزايد، إذا استمر، تمنيت لو أضع له حدا، صرخت في أولادي:

- "لا أريد سماع صوتكم"

انتظرتها على عتبة السلم بعد خروجها من عند جارتنا، ألقيت تساؤلاتي في وجهها كقنبلة، فلم تعرني انتباها وصعدت السلم، لكنها التفتت مجددا وقالت:

- "لست غاضبة"

تحيرت، وخزتني شكوكي، ربما عرفت ما يشين، حقا صديقتي لكن هناك دوما موضوعات لا أطلعها عليها، صديقتي لكني لم أستطع أبدا أن أتعرى أمامها كلية، لم أعرف أبدا هل طبيعة شخصيتي هي ما جعلني أخفي عنها أمور بعينها، أم طبيعة هذه الأمور هي التي فرضت على ذلك، لكني حدثتها عن الحزن، الذي يزورني في ليالٍ عديدة، وفي الصباح يتركني منهكة كثوب لم يتم كواؤه. عند عودتي من العمل، تعمدت ترك المفتاح بالباب من الخارج، تجربة أخيرة، لو فشلت هذه المحاولة، سوف أكف تماما عن استعادة علاقتنا، كنت أعرف ميعاد عودتها، ربع ساعة وسيدق الجرس، أو ربما ستفاجئني بدخولها المطبخ، ملوحة بالمفتاح قائلة كالعادة:

-"سيقتلك يوما أحد اللصوص"

 انهمكت في إعداد الطعام، أعمال المنزل وترتيب ملابس أولادي، الاتصال بزوجي في بلده البعيدة، التي يعمل بها منذ سنوات، عند الجلوس للراحة تذكرت المفتاح، أصابتني غصة، مرت بالباب ولم تدق الجرس إذن! لهذا، قررت أن أسقطها من فكري وأستريح.  لكنني قابلتها في السوق في اليوم التالي، اصطحبت جارتنا التي صفعت زوجها، اندهشت جدا، وقعت نظراتها عليّ، فمالت وتناجت معها، ثم أطلقت ضحكة طويلة، سقط الكيس الذي كنت أحمله، تراخت يداي عنه دون أن أدري، تولى عابر جمع الثمار المتناثرة، بينما وقوفي صامتة، شاخصة ببصري بعيدا يدهشه. عدت إلى المنزل، وقفت في منحنى السلم، أتسـمع صوت أولادي، أحاول قياس مدى الصوت، إلى أيّ مدى يستطيع المتطفل السماع لو كان واقفا هنا، لو اقترب، أو لو وجد المفتاح في الباب من الخارج وفتح ثم دخل بهدوء دون أن يشعر به المتحدثون في الداخل!

 وفي المساء، اعترفت لنفسي أن ما يغضبني حقا هو رغبتي في معرفة سبب ابتعادها، والوسيلة التي ربما عرفت بها معلوماتي الخاصة، وليس رغبتي في استعادتها، شعرت بقهر ما، لماذا ربطتُ بين ما تفعله معي وما قد تكون عرفته عني، ربما لم تعرف شيئا، وماذا لو عرفت؟ لا يهم.

 عدت للقلق وتساءلت:

-" كيف لا يهم؟"

كرهتها، تمنيت لو لم أصادقها، جلست أتذكر كل المواقف السابقة، التي وردت على ذاكرتي بدون ترتيب، حاولت الربط بين توقيت أحداث جديدة تمت في حياتي وأخفيتها عنها وتجاهلها لي، استعدت علاقتي بالجيران، هل بدأ أحد منهم يحذو حذوها؟ هل تجاهل أحدهم تحية الصباح؟ هل تناجى اثنان منهم أثناء عبوري؟ هل بدأت تقول عني ما عرفته؟ أمسكت رأسي، شعرت بحدوث انفجارات متتالية بها، تلاشى صوت أولادي وعلا صوت أفكاري فلم أستطع الوقوف، شملني الإرهاق وظللت نائمة، غزتني أفكار داكنة، ربما عرفت عني أمرا جاهدت في الماضي كي لا أقوله لها، كنت أجد بي رغبة في الحكي لها كلما امتدت جلساتنا الليلية، لكن لساني ينعقد في النهاية ولا أبوح، ها هي الأفكار القاتمة تترى، والحزن وجدها فرصة كي يرافقني طيلة الليل.

 وقفت أمام الشرفة، كان نور غرفتها بالطابق العلوي منعكسًا على الشجرة المنتصبة أمام المنزل، لمحت ظلها، وهي تقف بالأعلى، تمددت على سريري وضيق ما يعتريني، جاءني صوت رنين هاتفي من الداخل، كدت أدخل، لكنني توقف، عندما رأيت ظلها يتحرك على الشجرة، أصابتني الدهشة، لم أرفع سماعة الهاتف، تخيلت أن اهتماما ما ألم بها، واكب صوت الرنين تماما، تحرك ظلها أمامي بسرعة، كانت تسقط جسدها خارج الشرفة في حركة تلصص واضحة، بهدوء وسكون احترافيين! هذا ما بدا لي، ما لم أستطع التحقق منه، ظل الهاتف يدق، الحزن قرع الباب، والإبر تتراشق من داخل جسدي، يسيل خوفي، وأشعر أنني أتحول إلى قنفذ صغير يتكوم على ذاته، وأفقد ثقتي في كل البشر، قلبي يتسارع نبضه، ظللت أقبع في سكون وأتابع ظلها المنعكس على الشجرة أمامي.