السبت  27 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في الحَربِ التي لا تنتهي لـ الشاعر: ناصر رباح – غزة

2018-06-01 08:09:51 PM
في الحَربِ التي لا تنتهي لـ الشاعر: ناصر رباح – غزة
صورة تعبيرية

ضَعُوا قلوبَكم تَحتَ الأَسرَّةِ أحذيةًً مرهقةًً مُهملةً، فلا يَمُرَّ غبارُ الحروبِ عليها، ولا تعرفون.

ضَعُوا قلوبَكم على الرفِّ ساعةًً قديمةً معطلةً، فلا رعشةُُ القصف تعبرُكم، ولا تحزنون.

في الحربِ يتّسعُ القلبُ، يصيرُ قارباً للصغارِ، ساعةً للصفاءِ، سماءً للكتابةِ.

في الحربِ يختنقُ القلبُ، تَهُجُّ الكلماتُ، تذوبُ على حافتِه العصافيرُ ندىً أحمرَ، يرفرفُ على ساريةٍ شاهقةٍ شاهقةٍ، يسمُّونَها الوطنَ.

في الحربِ تتركُ قلبكَ جانباً وتنقذُ صُرَّةَ الأوراقِ: صورتكَ القديمةَ عند بابِ المدرسةِ، مِلكيّةَ بيتكَ المهدومِ، شهادةَ ميلادٍ لابنكَ، قلبُكَ لا يهمُّ الآن، ستنتظرُ الحبيبةُ انتهاءَ الحربِ كي تسألَ: هل كنتَ تذكرُني؟

في الحربِ لا أحدَ يصدّقُ قلبكَ المحزونَ. يصعدُ المسعفون على ساعديكَ ليُسندوا سقفَ البكاءِ، الطائراتُ تحُطُ حولَكَ ظِلَّها، وتطيرُ روحُكَ مثلَ سربٍ من زجاجٍ. الوقتُ أنتَ ولا يدلُّ شظيةً على الروحِ غيرُكَ، ربّما تشتاقُ أنْ ترمي على الأولادِ قلبكَ طابةً، ربّما تشتاقُ أن تفتحَ الشباكَ دونَ رصاصةِ امرأةٍ طائشةٍ، لا بأسَ هي حربٌ واحدةٌ أخرى وتمضي.

في الحربِ ينتحرُ الوقتُ،

يمرُّ اليومُ حينَ تُتاحُ دورةُ المياهِ لكَ، والساعةُ فسحةٌ ما بينَ بنايةٍ عانقَتْها القذيفةُ، وأخرى تفتحُ صدرَها للشهيقِ الأخيرِ في شارعٍ سيغادرُ التاريخَ حالاً، والدقيقةُ؟! لا دقائقَ في الحرب، حيث يقاسُ الوقتُ بالشهداءِ: مئةً، وألفاً. 

في الحربِ نجلسُ، حيثُ لا سيقانَ تحملُنا لنركضَ.

في الحربِ تتبعُكَ القذيفةُ مثلَ كلبٍ وفيٍّ، وجارٍ مملٍّ يبادلُكَ التحيّةَ والنكتةَ السيئةَ، تحفرُ في الذكرياتِ وشماً على شكلِ بيتٍ، كانَ بيتاً جميلاً قبلَ وصولِ القذيفةِ.

في الحربِ يخجلُ الأبناءُ من نزوَاتِهم، يكبرونَ أمامَنا كأنّا نلتقي بجيرانٍ قُدامى. كيف حالُك يا بنيَّ؟ ما زلتُ أركضُ يا أبي، ما زلتُ أركضُ، واحداً في سباقِ الجنونِ. 

في الحربِ أنتَ أدخلْتَني التجربةَ، أنتَ من جرَّ غِيلانَ الخرافةِ نحو بابي، أنتَ من نسيَ الشواءَ على الجمرِ عمداً، وأصرخُ: إنّه قلبي، ولمْ تسمعْ، ولمْ تغفرْ، ولم تتركْ من الحبِّ شيئاً فيه، من الكرهِ شيئاً كي أتمَّ القصيدةَ.

في الحربِ أنتَ خدعتَني بالنجاةِ شاحباً كسحابةٍ من دخانٍ.

في الحربِ تغبطُكَ الحياةُ على الحياةِ، بيوتُ الغرغرينا، نوافذُ الهستيريا، وإكزيما الشوارع، كلُّ ما في المشهدِ المذعورِ يغبِطُ أنّكَ تُبصرُ كلَّ هذا، وليس يمكنُكَ البكاءُ.

في الحربِ لستَ من لحمٍ ودمٍ، أنتَ آخَرُ في نفْسِ الثيابِ، مُدمّاةً ومتسخاتٍ وكاذبةً، وتشهدُ أنّكَ لمْ تمتْ بعدُ.