الإثنين  20 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الطفل عند منعطف النهر بقلم: إسماعيل الرفاعي

2018-07-20 12:33:50 PM
الطفل عند منعطف النهر
بقلم: إسماعيل الرفاعي
لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي

- 1

عند منعطف النهر.. سرق الولد طين الضفتين وظلّ الغَرَب، ولاذ بصوت ينادي: عُد يا بنيّ حان وقت الغداء، فطوى أثر سفينة كانت قبل حين، وكان المساء بعيداً، وكانت قيلولة الموجِ حين ألمّ به التعب.

عند منعطف النهر.. زرع الولد طفولته هناك، ونثر باقة من الأمنيات حين فاضت عيون النهر.. وأوشكت روحه على البكاء.. وكان صبيّ نحيل تعلّم السباحة باكراً، وقطع النهر باكراً.. حين نادى صوت عليه: عد يا ولدي فات وقت الغداء، والتهب التنور بحطب العمر، وناح القصب قبل المغيب علي.. يا ولدي خطفت القلبَ، والعين موشكة على النهر، فعد يا ولدي.. قدماي لا تحملاني، والقلب أوشك أن يفصح عن نيّته باكراً.. وكانت قيلولة الأرض حين ألقى الموت خطافه، فعد يا بني قبل أن تنطفئ العين ويبترد الجسد.

عند منعطف النهر بلّل الطّفل نهاره، وترك حلمه هناك.. أغلق جفونه على عينيها الحزينتين، أوقد مصباحاً قرب ذكراها وبكى على صوت كان ينادي.. عد يا ولدي حان وقت الرحيل.. قدماي عالقتان عند باب الدار.. وروحي أفلتت مني، فعد يا ولدي قبل أن يدركني الغياب. بي رغبة يا ولدي إلى عناق أخير.

يا ولدي رأيت الشجر يتقصف في مساء الفرات، والحور يميل على ظلّه وظلّك.. ورأيت "الميادين" غارقة في ضوء يفيض من أرض المقبرة.. ورأيتني دون أن أراك.. فعد يا ولدي هذا مساء لا صباح لي بعده إلا في غضون قلبك.

عند منعطف النهر.. تعثّر الولد بظلّه.. أطلق زورقه الورقي وغرق في موجة الهمّ، ونادى مراراً عليها ونادت مراراً عليه، وكان الصّوت يئن في جوف الأرض، ومن شرفة الأرض أطلّ ورد العلّيق عليه.

مائل هذا الصباح نحو المغيب، مائل هذا الحديث نحو حروفه الأخيرة.. عباءة النذور التي حلّقت في فضاء (عين علي) لم تلامس لا السماء ولا الأرض يا أمي، هي ذي تهوّم فوق رأسي كغيمة الغريب.

-2

عند منعطف النهر.. كانت شموع النذور تخدّد وجه الفرات في دروب الخضر، والغيوم تحتشد في أجساد الفراتيات، تفيض على رموشهنّ، حين هدر العشاق بأسمائهن في ساحات المدينة.. وكان الحور والسنديان وشجر الزيزفون، يطوف من حارة إلى حارة.. تتجمهر على أغصانه البلاد مزنّرة بشقائق النعمان.

وكان الزمان زمان الحكايا والأساطير: امرأة تعلّق على السماء شالها، يتشبث ولد النهر بظلها الهارب.. تخلع على جسده باقة النجوم، تهدهد له في ليل طفولته، يسند رأسه على أقمارها، ليصحو على رذاذ الفرات.

وكان شاعر يقصم ظهر العروض، يفتّت القلب بعبارة ساحرة، يخطّها بسبابة الكشف على حائط غرفته المتداعي، يمزج السماء بالأرض على قصاصة من ورق الروح، يبوح بالسرّ كلّما همّ بالكتابة، يترك نفسه على سجيّتها، يُضيّق الرفاق على المعنى، وتتسع المدينة.

وكان سليمان الكواكا، يكتب على السبورة أسماء تلاميذه، يترك لهم على مقاعد الدراسة حبات من بلح الثناء: الأول تقدم به العمر في زنزانة منفردة، والآخر تقدم به الوطن في المنفى، والثالث قضى في النشيد.. وآخرون على حالهم أضلوا الطريق إلى الحياة.

وكان لا يزال على حاله يكتب حروف صغاره مضمومة بسعف النخيل، حين اندلعت السبورة بالأحياء والبلدات والقرى.

عند منعطف النهر، حزم الطفل قاراته الخمس في حقيبة القماش، قفز سور المدرسة وتوارى في ظلال التوت، وكانت أمه تنسج من صوف يديها كنزة الشتاء، تنادي عليه بسرب حمام أظلّ الطريق إليه، وكان صوت ينادي: عد يا ولدي حان وقت رحيلي.. فهذي الظهيرة أقفلت علي دروب المساء.. لا قمر لي سواك بعد الآن يا ولدي، فعد قليلاً كي أقص عليك الحياة.

3-

وكان ولد النهر غائباً في النهر.. يطوّف على عرائش العنب، يزرع الفتنة بين حقل الجبس وشجر الرمان، يطوّب السنديان باسمه، يقطّر حليب التين على ثآليل يديه.. يعدو من ضفة إلى أخرى، خلف حورية أخلف معها الميعاد صيفاً بأكمله.. وفي كل مرة يسجل الأستاذ اسمه في دفتر الغياب، يجنّ حارس الفاكهة، تهبّ على المدينة رائحة الذرة المشوية، ويعلو صوت شجار على الضفتين.

وكان ولد يحرق مسوّدات حلمه على سطح بيته، تتشمم سيارة الأمن رائحة دخان معارض، فتلقي القبض على الرّماد. وكان ينصب تشكيلة السكاكر على ناصية الحارة، يبادل الحلوى بالقبلات.. تتمنع الجارة أول الأمر، وتخطف حفنة من القبلات في غرفة "الساكن".

وكعادته يفتح الليل أبوابه للحنافيش والسعالي، ويسرج الأمهار لستّ الحُسن والشاطر حسن.. وكعادته يوقد السراج للجارة العمياء كي تستدل على عمرها الضائع.. وكعادته الليل يقذف بالجنيات من سطح الجار على حبل الغسيل.. يتأرجحن بشدّة، يشددن شعور بعضهن، يرتدين قمصان الصبي المبللة، صداري مدرسته، يملأن الأرض بصراخ لا يسمعه أحد سواه.. وكعادته يستبد به الهلع، ويضحك على نفسه في الصباح.

وكان يا ماكان.. كانت صفائح الجسر الحربي، مركونة على الشاطئ، تُصفّر بها الريح.. يقرعها الهجّانة بأعقاب بنادقهم الفارغة وهم يفتشون عن الخضرة المهربة، ويلوذ بها العشاق آخر الليل.

وكان حلم لا يحول ولا يزول.. أن يفيض الفرات على البلاد كلها، وأن يندلع ياسمين الشّام في حويجة الدم، وأن تستعيد نصرة جديلتها، وخالصة مصباحها، وتستعيد ليلى ثديها المجزوز، وأن تجمع أمي أولادها وبناتها في لحظة الوداع.. وأن أعود إلى النهر، كي أضمّ الولد الذي تركته هناك كل هذه السنين، يبحث في حبات الرمل عن كراسة الدراسة، وعن أسماء زملائه الضائعين، وكي يسجّل في تقاويم العمر يوماً لم يعشه، ولحظة كان ضائعاً فيها، حين نادى صوت عليه: عد يا ولدي كي أراك قليلا.. وكي أتلو عليك سورة الرحمن، وأحصّنك من عين العدو والصديق، وكي أمضي يا ولدي في سبيلي دون غصّة في القلب.. وأخبرك بأن ولد النهر ما زال على حاله.. طافحاً بالنهر يا صغيري.

- 4

عند منعطف النهر ما زال الولد على حاله، يعدو من صيف إلى صيف.. في الظلال المرتعشة لنوافذ "الزايد" التي لا تنام.. في "حويجة مناع" وعصافيره الشاردة.. في أسماء عشيقاته المحفورة على قشرة الحور، في وردة الشمس اللاهبة على عنق الصبية.. عند جرف "العلوة"، وأنفاس الساهرين هناك، ينفثون في سماء الهمّ والغمّ سحائب نكاتهم. ما زال ولد النهر على حاله.. يقطّر المدينة من رموش عينيه، يتنفّس رائحة الفرات برئة واحدة، كي يقطر أنفاس بلاده من هواء غربته الثقيل.

وجد أن وريده يصبّ في وريد النهر.. وجد أن وريد النهر يصبّ في وريده.. في طائرته الورقية سماوات من ورق وسماوات من حلم.. وفي ذيل طائرته المضفور بالغيوم صباحات من فرات.. كأن أنفاسه لم تكف عن جوف القصب، وكأن أصابعه لم تكف عن ثقوب الناي.

هنا.. وهناك. في منتصف العمر وأول خطوة على طريق النهر.. وجد أنّ الروح لابثة على الضفاف هناك.. وأنها لابثة في غمار الماء.. وأن الماء لابث في حنايا الذاكرة.. وأن الذاكرة لابثة في عيون النهر.. كلما فاضت عيون النهر بالبكاء.

- 5

مساء خالي الوفاض.. ربما، لكنّ نجمة تولد على الورق.. تضيء بضعة سطور عن مدينة تغالب ليلها الطويل. مساء خالي الوفاض، لكنّه يسمح ببرهة من التأمل.. بنفس سيجارة عميق، وزفرة طويلة. يسمح للرجل الوحيد، أن يقرأ لأنثاه قصيدة طيّ الكتابة.

مساء وقور.. ربما، لكن خاطرة عن الشغب تنزلق عن رأسه الحاسر، تحطّ على جرف "العلوة"، فيتدحرج الولد الشقي من كتف الرجولة، إلى ساحة العيد.. يصنع ميدالية من البلاستيك، يحفر عليها اسم جارته، يشكل عصابة من أولاد الحارة، يغير على أعشاش الدبابير، وشجر التين في الحي المجاور، يخلّص الولد الأبله من جاره اللئيم، يصنع ربابة من شعر الحصان.. يقلّد المغامرين الخمسة، ويتعثّر في حلّ اللغز، حين تسطو عصابة أخرى على متاجر الذهب.

مساء جليل هنا، وغيمة أول السطر، تبشر بزخة من المطر الغزيز، تنزّ من الذاكرة.

للسماء أجنحة تخفق بها في هذا المساء.. وللأرض أيضاً. وعلى كتفي أمك حين ترتحل كنسيم يهبّ من تلقاء نفسه.. كي تستدل على نفسك في خطوط راحتيها، آن تفرد لك الملكوت على اتساعه.. وتومئ لك بطيور تتهادى كزغب الكشف.. وأيضاً بملائكة تحف بك وأنت تسبر العتمة بعينين مغمضتين وقلب يلتمس ضوء عينيها.. حتى أنها أرتك ما أعدته لك في غيابها وغيابك.. وأرتك ما أعدته لك في غفلتك وارتقابك.. وكانت "الميادين" بينكما ولم تكن. وكانت المسافة بينكما ولم تكن. وكانت المواقيت بينكما ولم تكن.. حتى أنك رأيت ما سيأتي حين رأيت.. وحتى أنك هنا وهناك.. في مقتبل الطفولة عند وهج التنور تلتمس خبز يديها.. وعلى مشارف الخمسين تناولها دقيق الروح كي تعدّ لك خبز حياتك. وأنك ما زلت ترى الفرات على هديره وهديرك.

ألم تكن يا ولد النهر.. على ضفاف النهر أينما كنت.