الخميس  28 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في مواجهة الأزمة العميقة: هل نحن أمام تغيير قواعد اللعب؟ 2/2 بقلم: سمير حليلة

2019-02-10 12:25:51 PM
في مواجهة الأزمة العميقة: هل نحن أمام تغيير قواعد اللعب؟ 2/2 بقلم: سمير حليلة
سمير حليلة

 

كنت قد راجعت في الجزء الأول من هذا المقال وبشكل مختصر، الأثر الذي تركته مسيرة أوسلو وقيام السلطة الوطنية على البنية المؤسساتية الحاضنة للاقتصاد الفلسطيني، إضافة لاستعراض أهم مؤشرات هذا الاقتصاد بعد مرور 25 عاما على قيام السلطة الوطنية ومؤسساتها وإدارتها.

ولم يكن جوهر المراجعة هو التركيز على تراجع المؤشرات العامة وتباطؤ الاقتصاد وما صاحبه من ارتفاع معدلات البطالة والفقر والفقر المدقع، بل كان أن فلسطين تدخل الآن في أزمة عميقة جوهرها سياسي وانعكاساتها اقتصادية، ومن المتوقع استمرارها لسنوات طويلة دون وجود أفق للخروج منها أو حلها باستخدام الأدوات القديمة التي طرحتها اتفاقية أوسلو. وهذا يستوجب فتح نقاش عام متعدد المستويات يفحص علاقة المسار السياسي بالأداء الاقتصادي بشكل وثيق ويعيد تعريف دور السلطة الوطنية ومكوناتها الرسمية والشعبية سواء في عملية البناء أو توفير مقومات الصمود المطلوبة في المرحلة القادمة.

تكاد هذه المرة أن تكون الأولى التي يصطدم فيها الواقع الفلسطيني بقوة وشراسة مع نتائج عملية السلام، ولا يوجد حل في طياتها أو لدى الراعين لها. لقد واجه الاقتصاد الفلسطيني أزمة عميقة في الأعوام 2001-2004 مع الانتفاضة الثانية، كما وواجه أزمة أخرى عميقة بعد الانتخابات عام 2006 وانقلاب 2007 في غزة، إلا أن المسار السياسي بقي تحت مسؤولية الحاضنة الأمريكية/ الدولية، وبقيت أطر وحدود اتفاقية أوسلو هي سكة الحديد التي سار عليها القطار الاقتصادي.

ويمكن اعتبار قرارات الرئيس أبو مازن الأخيرة بمقاطعة الإدارة الأمريكية ورفض مجمل قراراتها المتعلقة بالقدس والاستيطان ووكالة الغوث وتمويلها وغيرها؛ مؤشرات واضحة على انتهاء القبول الفلسطيني بالرعاية الأمريكية، في ظل غياب شريك إسرائيلي في عملية سلام ذات مغزى. وجاء تناغم الموقفين الأمريكي والإسرائيلي الجديدين في ظل موقف عربي باهت وضعيف ليعكس ملامح التحالفات الجديدة التي تشكلت على المستويين الدولي والإقليمي فيما يخص الموضوع الفلسطيني.

ولم ينعكس هذا الموقف الفلسطيني الشجاع على المستوى الدولي في فتح الباب وإعادة النظر في الدور السياسي والمؤسسي للسلطة الوطنية على المستوى الوطني في ضوء هذه المواقف الجديدة. واستمر العمل بالتنسيق الأمني، والالتزام بعدم فتح مجابهة واسعة مع إسرائيل وأمريكا في الأطر الدولية.

وبدون الدخول في وصف طبيعة الاشتباك الحالي بين السلطة الوطنية وقراراتها وبين أطراف عملية السلام، فإن ثقة الشارع الفلسطيني اهتزت بقوة فيما يتعلق بوجود إطار دولي فاعل يرعى مسيرة أوسلو التي كان يأمل منها أن تقود لإنهاء الاحتلال والاستيطان وإقامة الدولة المستقلة. وشرعت إسرائيل وأمريكا خلال العام الماضي بإطلاق هجمة واسعة شديدة التأثير على المكتسبات المحدودة التي حصل عليها الشعب الفلسطيني في إطار مسيرة أوسلو، وبدأت مرحلة جديدة متسارعة ومتصاعدة من القضم والهضم للحقوق الفلسطينية على المستوى الوطني والدولي (وبصمت عربي إن لم يكن بمساعدة عربية).

إذا حاولنا الإجابة على السؤال الاستراتيجي المتعلق بالدور المطلوب من السلطة الوطنية الفلسطينية في إطار اتفاقية أوسلو وعلاقتها بمعركة إنهاء الاحتلال والاستيطان، فإن جزءاً من هذا الدور قد تشكل استناداً لنصوص الاتفاقيات الموقعة، بينما تم إضافة جزء آخر من خارج الاتفاقية (De-facto)، مما أدى لتحويل السلطة الوطنية إلى أمر واقع جديد مجتمعي ومؤسسي في الوطن، وحوّلها للعنوان الرئيسي للشعب الفلسطيني بالرغم من كل التقييدات والعوائق التي وضعتها اتفاقية أوسلو أمامها.

ومع أن مسيرة السلام كانت تهدف إلى توقيع اتفاقيات مرحلية تضع الأساس للانفصال عن إسرائيل وسيطرتها واحتلالها؛ إلا أن المسار الفعلي بعد 25 عاما  أدى إلى ارتهان السلطة نفسها وقيادتها بهوامش ضيقة، تتيحها إسرائيل وتربطها بها بقوة، مما جعل أوسلو "منجلا" تم بلعه، فلا نحن نستطيع التراجع عنه أو الخروج منه في ظل الوضع العربي والدولي. ولا نحن نمتلك القدرة على استكمال ما بدأناه والوصول به إلى نهايته المرجوة.

لقد كان الهدف من إقامة السلطة الوطنية أن تنجز بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها وأطرها، وأن تصبح الأداة المحلية التي تقدم أفضل الخدمات لمواطنيها وتوفر لهم كل عوامل الصمود الوطني خلال المرحلة الانتقالية في ظل الالتزام بقواعد الاتفاقيات الموقعة، وذلك حتى إنشاء الدولة الفلسطينية الفتية والفعالة والقادرة.

وتراوح المد والجزر بين ما تريده إسرائيل من هذه السلطة وما بين الموقف الرسمي والشعبي الفلسطيني، لتكون النتيجة سلطة حكم ذاتي ضعيفة بدور أمني بارز يخدم إسرائيل كما تريدها إسرائيل، أو كما أرادها الفلسطينيون، أداة تمكين وبناء المشروع الوطني الفلسطيني ودولته. وهكذا تراوحت المواقف والتقديرات ما بين هذين الدورين منذ الانتفاضة الثانية وحتى الآن.

إن نقطة الاتصال بين مشروع الدولة وعملية إنهاء الاحتلال تكمن في أن لا تحصر السلطة الوطنية مهامها ودورها في تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها فقط، بل التحول إلى أداة تساهم في تعزيز صمودهم وإدارة الصراع على الأرض وتمكن شعبها من مجابهة الاحتلال والمستوطنين. وفي اللحظة التي تحدد السلطة مهامها على هذا الأساس، نكون قد أخذنا من أوسلو (بالرغم من كل القيود) أداة نضالية وطنية فعالة وشرعية تمكن الشعب الفلسطيني من الاستمرار في نضاله لسنوات طويلة قادمة.

أما في حال إن ضيعت السلطة الوطنية البوصلة وتحولت لأداة تضييق وخنق لجمهورها ولمؤسسات المجتمع المدني، ومحاولة السيطرة والهيمنة على المبادرات الشعبية، واستخدام أدواتها السلطوية ضد العملية الديمقراطية وضد التظاهر وضد العمل الشعبي المنظم أو العفوي، أو اللجوء إلى استخدام أجهزتها الأمنية (وهي أجهزة وقيادات وطنية) لفرض رقابتها وسيطرتها على الإرادة الشعبية في الوقت الذي لا تستطيع فيه توفير الحماية الأساسية لمواطنيها ضد المستوطنين، أو ضد جيش الاحتلال في مدنها، حينها تكون مهمة إنقاذ السلطة من نفسها هي المهمة الأولى والأهم.

وعليه من غير المقبول أن تتحول الحكومة إلى أداة إضعاف للقدرات الفلسطينية، سواء للشباب الفلسطيني أو لمؤسساته وللمجتمع المدني بشكل عام على الرغم من كل الترهل والضعف الذي أصاب أطره وقياداته. وإذا ما أصبحت مهمة السلطة الوطنية هي السيطرة على جمهورها من خلال تشريع قوانين الجمعيات الخيرية والقوانين المنظمة لاستخدام أدوات التواصل الاجتماعي وغيرها من أجل "ضبط" تمويل هذه المؤسسات وإضعافها وإغلاق نشاطاتها، فمن الذي سيبادر ويستمر في قيادة العمل الشعبي في مواجهة الاحتلال، ومن الذي سيتظاهر في القدس وينتفض في رام الله، ومن الذي سيدافع عن شعبنا في المغير وبيتا وسالم، وفي العقبة والخان الأحمر؟

إن تاريخ السلطة الوطنية وعبر الخمس وعشرين سنة الماضية، يشهد أن الحكومات المتعاقبة لم تكن تدرك بنفس الدرجة والقوة هذا الدور "التمكيني" للسلطة الوطنية ولشعبها وقواه الحية، إلا أنه يبقى المبرر الأساس لاستمرار الاعتراف الشعبي بشرعية أوسلو وعدم التسليم بترك مؤسسات السلطة لإسرائيل بل والحفاظ عليها وتطويرها باعتبارها أداة رسمية هامة تساعد في دعم وإسناد الصمود والمقاومة الشعبية الفعالة للاحتلال، بل هو جوهر دورها المتعاظم في المرحلة المقبلة.

مع إدراكنا لصعوبة القيام بهذا الدور في ظل العديد من اشتراطات أوسلو، إلا أن رسم العلاقة الدقيقة بين ما يمكن وما لا يمكن القيام به من قبل السلطة الوطنية هو مركز نقاش هذه الورقة، حيث لا يملك أحد حلاً سحرياً أو وصفة تفصيلية لهذه العلاقة، وهو الإطار المنظم لبرنامج أية حكومة فلسطينية قادرة على المساهمة بفعالية في دعم النضال الفلسطيني وتطويره.

إن حجم ودرجة "تأزيم" السلطة الوطنية لعلاقتها مع سلطات الاحتلال وأجهزته يجب أن تكون  محور العمل السياسي الفلسطيني في المرحلة القادمة، سواء على المستوى الدولي، أو المستوى الوطني في إطار توسيع أو تضييق مهمات التنسيق الأمني أو الاقتصادي. وعليه يبقى الشعب الفلسطيني بشبابه ومؤسساته وفعالياته هو المرجع والضامن لاستمرار صمود شعبنا في كل الظروف وفي كل الأوقات.

وفي هذا السياق، فإن من الأهمية بمكان إعادة صياغة العلاقة بين المنظمة والسلطة والوطنية بحيث تكون علاقة تكاملية: السلطة أداة تمكين وبناء مؤسسات وتعزيز الصمود على الأرض، والمنظمة أداة لإدارة دفة الصراع السياسي وتجسيد الكيانية الفلسطينية.

لقد اعتبرتُ في الجزء الأول من مقالي أن اقتصاد السوق هو الاقتصاد السائد  طوال فترة قيام السلطة الوطنية والذي استطاع أن يطور ويطلق قدرات ومؤسسات القطاع الخاص الفلسطيني بفعالية ونشاط، وأن يزرع بنية تحتية كفؤة في المجالات المختلفة كالاتصالات والكهرباء والبنوك والسوق المالي والقطاع العقاري والصناعي، إلا أن كل ذلك لا يقلل بالطبع من الجهد الذي سبق أن بذلته الحكومة في إطار تدخلاتها الموجهة لمساعدة الاقتصاد الوطني خاصة في المناطق خلف الجدار وفي بعض المناطق المسماة (ج)، وفي مثال ذلك دعم البلدة القديمة في الخليل، وإقامة شبكات الري وتوسيع وصيانة الآبار الارتوازية في فترات متفاوتة.

إن النجاح الفلسطيني في بناء مناعة الاقتصاد الوطني وبنيته التحتية سيكون أساسا لنجاحنا في معركتنا السياسية، وامتلاك الأدوات الاقتصادية الملائمة وتوجيهها لخدمة مشروع إنهاء الاحتلال وتركُ الباب مفتوحا لقوى السوق لتعمل بأقصى طاقاتها في إطار الضوابط والتشريعات الملائمة في هذا السياق، ويكون ذلك هو المفتاح لشراكة تنموية بين السلطة الوطنية وبين القطاع الخاص الفلسطيني تستهدف إنشاء الاستراتيجية الانتقالية موجهة للبناء الداخلي الفلسطيني، من الممكن في هذه المرحلة إعادة تعريف أهداف الاستراتيجية الانتقالية لتتركز في خمسة أهداف أساسية، حيث يمكن بناء برامج الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني في إطار مرجعيتها وهي تشكل إطاراً عاماً واسعاً للجميع كالتالي:

1.    العمل على بناء دولة الإنتاج عبر إقامة بنية تحتية قوية ودعم المنتج المحلي ودعم الصادرات وتخفيض الاستهلاك وتوجيه الاستثمار والقروض للمشاريع الإنتاجية، ودعم توسع القطاع الزراعي والصناعي.

2.    إعاقة تقدم المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس، ونزع الشرعية عن النظام العنصري الاستيطاني، وهذا يتطلب بالأساس استراتيجية عمل واسعة في المناطق المسماة (ج)، وتكثيف الجهود على المستويين الدولي والإقليمي لتحويل هذه الاستراتيجية إلى خطط وبرامج عملية للحكومة ولمؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص الفلسطيني.

3.    تأزيم العلاقة مع سلطة الاحتلال وأجهزته وتصويبها، لإعادة التوازن لمخرجات اتفاقية أوسلو وعلى رأسها الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية

4.    تعزيز أدوات الحماية الاجتماعية بما يشمل الحد من توسع ظاهرة الفقر والفقر المدقع والبطالة وإيجاد آليات ومؤسسات تضمن استقراراً أكبر للعمليات الإنتاجية كمؤسسة التأمين الزراعي وبرامج تأمين الصادرات والتأمين ضد المخاطر السياسية ومراقبة أسواق العمل… الخ.

5.    التنمية بالمشاركة: وهذا يشمل بناء أوسع ديمقراطية ممكنة على الأرض، تفتح من خلاله الباب لتفعيل طاقات الشباب والمؤسسات والأدوات الرقابية التشريعية والعمل بجدية لمكافحة الفساد وإقامة جهاز قضائي مستقل نظيف وفعّال، وخلق عنصر بشري مبدع ومتمكن. وفي هذا السياق، يجب التأكيد على ضرورة إعادة بناء هياكل المؤسسات الجماهيرية كالنقابات العمالية والمهنية ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص والمؤسسات الشبابية والنسوية وإزالة الترهل الذي أصابها وبث روح جديدة من الأمل، عبر توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، تقوم على الالتزام الدائم بإجراء انتخابات دورية، وإعادة تعريف دورها الوطني والمدني وتوسيع قاعدة أدواتها وتأثيرها. ومما لا شك فيه فإن إعادة إحياء الحياة البرلمانية من خلال مجلس تشريعي منتخب، وتفعيلها لتعود وتصبح الأداة الأهم في إقرار استراتيجيات وخطط الحكومة والإشراف والرقابة عليها يكتسب أهمية كبرى.

ومن الواضح أن قائمة الأهداف سابقة الذكر حتى لو تحققت بأكملها، فإنها ستكون عاجزة عن معالجة وحل العقدة الرئيسية الداخلية والمتعلقة بوحدة الوطن الجغرافية السياسية والاقتصادية، وتأثير ذلك الوطني في إضعاف الموقف السياسي الفلسطيني وتراجع أداء الاقتصاد الفلسطيني، إن شرخ العلاقة الفلسطينية الداخلية يترك في مهمة صمود ومناعة الاقتصاد الوطني جرحاً مفتوحاً يجعله غير قابل للتحقق بمفهومه الشامل والحقيقي. وبغض النظر عن مدى جدية الأطراف المعنية من متطلبات إنهاء الانقسام بأسرع وقت كأولوية وطنية ترقى لمستوى الانقاذ الوطني لقضية شعبنا، وحتى تحقيق ذلك، فإنني أعتقد جازماً بأن مهمة إعادة بناء البنية التحتية الأساسية للقطاع وبالأخص في مجالي المياه والكهرباء ستبقى مسؤولية وطنية أولى يجب أن تتم من خلال السلطة الوطنية، ولا يمكن ترك الوضع الإنساني للقطاع مرهونا بإيجاد حل لشرخ العلاقة السياسية القائمة بين حركتي فتح وحماس. إن مرور 12 عاماً على تدهور هذه العلاقة وحجم التدخلات الإقليمية والدولية المترتبة على هذه الثغرة تضع الكثير من العقبات أمام إنجاز أية مصالحة وطنية فلسطينية، ولا نستطيع بالمقابل إبقاء عناصر حياة واستمرار الشعب الفلسطيني في القطاع رهينة لهذا الصراع.

إن إيجاد آليات مناسبة ومقبولة للتدخل، وبالتركيز على متطلبات الحياة الأساسية هو ضرورة حيوية الآن، تفتح الباب لمزيد من الضغط على قيادة حماس، وتأطير الجمهور الفلسطيني في مواجهة الانقسام الحاصل، وكل ذلك بالطبع في إطار المرجعية الفلسطينية الشرعية المتمثلة بالسلطة الوطنية.

إن هدف هذه العملية هو التعبئة الشاملة للطاقات الفلسطينية، بما فيها الشتات والداخل الفلسطيني، من أجل توسيع السيطرة على الموارد، والشروع ببرنامج إصلاح هيكلي للاقتصاد يخدم العملية النضالية ويساندها ويشكل عنصر قوة لها، وهو برنامج انتقالي موجه للبناء الداخلي واستكمال بناء عناصر قوة ومناعة الاقتصاد الوطني الفلسطيني.