الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ثقافة انتخاب الفلسطيني لـ عبد الرحيم الشيخ

2019-04-23 07:29:47 AM
ثقافة انتخاب الفلسطيني لـ
عبد الرحيم الشيخ
من المناظرة الانتخابية لكتلة الشبيبة الفتحاوية في جامعة بيرزيت 2019 (الحدث)

 

في غمرة الابتذال الذي قد يكتنف مقاربة الواقع السياسي في فلسطين، حيث يتماهى الواصف والموصوف، ليس ثمة جدوى لنقد السلطة إن لم يتَّخذ النقدُ أدوات لا تتورُّط في إعادة إنتاج مفردات السلطة، ونحوها، وأداءاتها. ويمكن، مثلاً، توسُّل علم الأحياء للتَّفريق، على مستوى النَّحو، بين "الانتخاب" و"الانتخابات"؛ وتوسُّل الموسيقى، على مستوى الآليَّة، للتَّفريق بين "ديمقراطية السَّادة" و"ديمقراطية العبيد"؛ وتوسُّل علم الإنسان، على مستوى الأداء، للتَّفريق بين "الاحتفاء" و"المسخرة". قد يبدو هذا النهج قفزة بلاغية في الهواء، لكنَّه يمكِّن، من النَّجاة، وإن لحظياً، من سلام النِّفاق الفُرجوي الذي يغطِّي حرب الكل ضدَّ الكل، "الكل الـمُسْتَثْنِي" الذي جرى انتخابه فردياً دون انتخابات جماعية، ضد "الكل المُستَثْنَى" الذي فاته قطار الانتخاب والانتخابات، فصار فكَّةً جماهيرية تُخيفها فزَّاعات التآمر الخارجي، وتهدِّدها ضغوط اليومي الآسن... ولذا، فإن من شأن تغيير أدوات القراءة أن يمكِّننا من ممارسة النقد، في أبهى صوره، حين "نفسِّر للآخرين أفعالهم"، ولا نبرِّرها.  

يوفَّر علم الأحياء فرصة نادرة لفهم ما يجري في السياسة الفلسطينية، وبخاصة مفهوم "الانتخاب" الطبيعي، ويقال له، كذلك، "الاصطفاء" و"الاختيار" و"الانتقاء" وكلُّها أفعال ذات دلالات مقدَّسة تلحق بالمسيرة العلمانية للسيِّد التاريخ، وتتشبَّث بفروته لتصير منه. والانتخاب الطبيعي هو عملية غير عشوائية تختار مجموعة من السمات الوراثية في أجيال متتابعة على نحو يعزز قدرة حامليها على البقاء، ويحفِّز تكاثرهم بانتظام، ويمكنهم من التأقلم مع الظروف المحيطة عبر تصميم آليات للتطوُّر، لتصير، مع مرور الزمن ومحاباة الطبيعة، سمات سائدة في المجتمع السعيد. الانتخاب فعل فردي تنفِّذه الطبيعة، بوصفها السلطة الأكثر أوتوقراطية في الكون، فيمن تراه الأكثر صلاحاً للبقاء؛ فيما الانتخابات فعل جماعي ينفِّذه الأفراد أنفسُهم لاختيار السلطة الأكثر صلاحاً للحفاظ على بقاء المجموع. وبين فاعلية السلطة الأوتوقراطية التي تُجري فعل الانتخاب الفردي (selection)، وترجمتُهُ التعيين والمحاباة، ومفعولية السلطة الديمقراطية التي يُجرى (لتفويضها) فعلُ الانتخابات الجماعي (election)، وترجمتُهُ الاختيار والمساواة، هوَّةٌ تشبه الموت، لم ندرك، بَعْدُ، قاعَها، الفلسطيني. 

ففي فلسطين، تبدو الديمقراطية سلسلة من عمليات الانتخاب الفرديَّة التي تؤدِّيها السلطة على نحو مطابق تماماً لعملية "الانتخاب الطبيعي" في المجتمعات الحيوية البدائية، بحيث تعيد إنتاج بنى سلطوية تحكم المجتمع الفلسطيني الذي فارقته السعادة. هنا، تكفي الإشارة إلى المفارقة الأكثر تداولاً في الراهن الفلسطيني الكئيب: كيف لفصيل سياسي لم تتعدَّ أصوات ناخبي كتلته الطلابية في جامعة بيرزيت، مثلاً، ثلث عدد الأوراق اللاغية، أن يكون له تمثيل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحكومة السلطة الفلسطينية الجديدة؟ هذه المفارقة تحيل على سؤال آخر، مؤدَّاه: كيف لفصيل ثانٍ، لم تخض كتلته الطلابية انتخابات جامعة بيرزيت أصلاً، إذ ليس لديه من الأفراد ما يمكِّنه حتى من إجراء دعاية انتخابية، أن يكون له تمثيل مشابه؟ الجواب بسيط ومفجع: إنه الانتخاب، لا الانتخابات.

لعلَّه من الصعب رصد هذه الظاهرة في دول المركز الأوروبي، حيث نشأت ديمقراطيات السَّادة في دول السيادة، وفي بعض محظيَّاتها كدولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل، مثلاً. هناك، تتراجع أحزاب، حدَّ الزوال والاختفاء التام، بفعل الانتخابات، دون أن يذرف أحدٌ دمعة واحدة عليها، أو يتشدق آخر بعراقتها، ونضالها، وتضحياتها (التي لم يقسها عداد الشهداء والأسرى والجرحى). أما هنا، في فلسطين، حيث شعب بلا دولة، و"سلطة بلا سلطة"، وحكم ذاتي لم يتحقق... فقد تم تأبيد حضور الفصائل التي تجاوزها التاريخ، لتشارك في تطبيع الاستبداد السياسي في المؤسسة الفلسطينية الرسمية، سواء كانت منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية، عبر عملية تواطؤ مزدوج، إذ التواطؤ في الاصطلاح لا يكون إلا مزدوجاً كونه يحيل على فعل إيروسي له قيمة تبادلية للمنفعة يستمتع بها الواطئ والموطوء. إن استمرار وجود هذه الفصائل التي غدت تشكيلات فوق-كاريكاتورية، محض وجودها، وليس وجودها في السلطة على وجه التحديد، بذريعة أنها جزء أصيل من "الكل الفلسطيني"، شكَّل، ولا يزال، مادة خصبة لنماء التندُّر الشعبوي وازدهار النكتة السياسية في مواقع التواصل الاجتماعي.

لم يعد السؤال، إذن، ما هو حجم تمثيل هذه الفصائل من "الكل الفلسطيني": الجغرافي (فلسطين التاريخية)، والديمغرافي (الفلسطينيون الـ13 مليون)، والهستوغرافي (الفلسطنة من حيث الإسهام في صراع حركة التحرر الوطني الفلسطيني ضد حركة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية ودولتها إسرائيل حتى تحقيق العودة والدولة وتقرير المصير)... بل أضحى السؤال: ما هي طبيعة اللعبة السياسية التي حوَّلت هذه "الفصائل السياسية" إلى "مفاصل وظيفية" لحكومتي أوسلو وحزبيها المسيطرين على إدارة شؤون الناس في كل من غزة ورام الله، رغم بعد الشُّقة بينهما؟ وما هي علاقة هذا كله بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية ووحدانية تمثيلها للكل الفلسطيني العيني، لا البلاغي، في فلسطين التاريخية والشتات، التي لم يستطع، ولن يستطيع، أحدٌ تجاوزها؟ وكيف أسهم هؤلاء جميعاً في تحويل فلسطين الميثاقية إلى وطن مُذرَّر ينقصه تعريف للمواطنة الموحَّدة التي تمنح المعنى لـ"وجود" الفلسطيني أينما كان، بغض النظر عن الاتفاقيات السياسية التي لم تُفضِ إلا إلى مزيد من النكبات؟

في هكذا سياق، يمكن للموسيقى أن تشكِّل مدخلاً آخر لفهم الحياة السياسة، وبخاصة موسميَّة الديمقراطية الفلسطينية وانتقائيتها. فالانتخابات، بدل أن تكون فعلاً جماعياً لاختيار السلطة، تمَّ تحويلها، بقدرة فاعل كليِّ القدرة، إلى فعل فردي للسلطة، تجدد به، ذاتياً، شرعيتها المتآكلة بوصفات غير ديمقراطية، وبقوة أدوات اتفاق سياسي حَدَّد للقيادة الفلسطينية وطنها، ومواطنيها، وشكل مواطنتهم (أوسلو، 1993). انطلقت الانتخابات أوَّّل مرَّة، بأمر السيد الرَّاعي الأمريكي للاتفاقية، ومباركة حليفته-الدولة الصهيونية العدوَّة التي ارتضت أوسلو حلاً لـ"مشكلتها الأمنية"؛ ثم تحوَّلت الانتخابات، بعد تكرُّس السلطة وتمكُّنها، إلى شأن شبه-داخلي، يبدو فيه المشهد متجانساً كجوقة يتحكم قائدها بشارة البدء والختام، وارتفاع وتيرة الصوت وانخفاضها، كريشندو ودي-كريشيندو بامتياز، لكن دون جماليَّة ولا إمتاع.

وديمقراطية الكريشندو الفلسطينية هذه، تُمَيِّزُ النظام السياسي من رأسه حتى أخمص قدميه في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية على حدِّ السواء. كيف، ومتى، ولماذا، وبأمر مَنْ تُجرى الانتخابات؟ البرلمانات المدرسية، ومجالس الطلبة في الجامعات، والهيئات، والأحزاب، والاتحادات، والمجلس التشريعي، والمجلس الوطني، والمجلس المركزي، واللجنة التنفيذية، والحكومة، والرئاسة؟ من يَنْتَخِب؟ ومن يُنْتَخَب؟ ولأيَّة مهمَّة؟ وتبعاً لأي قانون؟ ولخدمة مَنْ؟ ومَنْ يملك حق الاحتفاظ بعدد من المقاعد أو الوزارات، في "ثلاجة الشَّرعية"، لضيوف طارئين لم يَنْتَخِبُوا، ولم يُنْتَخَبوا، ولم يُفَوِّضوا، ولم يُفَوَّضوا، ولم يُبايِعوا، ولم يُبَايَعوا؟ وكأنَّها ديمقراطية للعبيد الذين عرَف السَّيد حدود ذواتِهم وعرَّفها.

تتناسخ هذه الآلية في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية بخاصة، وتأخذ أشكالاً عبثية في فصائل صغرى كالتي شهدت استقالات سوريالية قُبيل تشكيل الحكومة الثامنة عشر، وفي الحركة الوطنية الفلسطينية التي هي خارج المنظمة والسلطة بعامة، في تظاهرة فرجوية يعزُّ مثيلها، أحالت ما كان يُعرَفُ يوماً بـ"ديمقراطية غابة البنادق" إلى "ديمقراطية غابة البيادق" التي تتخذ من الانتخاب، الذي لا انتخابات فيه، غاية لا وسيلة... وتتوِّجها باحتفالات تُنْقلُ ببث فضائيٍّ مباشر على التلفزيون الرسمي، وتوصف بـ"العرس الديمقراطي"، حيث تُبَثُّ الزغاريد، التالية للمهاهي، الفلسطينية الفعلية من القاعات المخصصة للاحتفاء الذي صار احتفالاً، سواء كانت قاعة في المقاطعة أو أيَّة قاعة أخرى في أيّ مكان يجري فيه أيّ عرس انتخابي... حيث تُنقل المراسم، كاملة، لإدخال قائد، أو قيادة، في حيِّز الأبد الذي لا بدء فيه ولا انتهاء، قبل أن يُهْدَى الفوزُ، دائماً وأبداً، لروح الشهيد الكبير.

لو قُدِّر لعلم الإنسان أن يزدهر قليلاً في فلسطين الراهنة، لأدخل فعل الانتخاب وثقافته إلى حيِّز الدرس الأنثروبولوجي للفُرجة السياسية التي تؤمِّنها عمليات الانتخاب المتكاثرة التي أحالت متعة الاحتفاء إلى أداء للمسخرة. ولعل أداءات الفرجة السياسية هذه لا تقتصر على السياسيين، وفصائلهم، واتحاداتهم، وكتلهم الطلابية، ومُطلقي النار، وناحري الذبائح، وحسب... بل تشمل، أيضاً، جموعاً من رجال الدين الذين انتحلوا صفات الإعلاميين، والإعلاميين الذين انتحلوا صفات المحللين السياسيين، والمحللين السياسيين الذين انتحلوا صفات الأكاديميين، والأكاديميين الذين انتحلوا صفات الآلهة… في اختراع الكلام، وصك المصطلحات: من الدمقرطة (democratization) حتى تفكيكها (de-democratization)، بغية أدلجة الهزيمة، والدفاع عن فساد السلطة، وهشاشة المجتمع، وتردِّي الذائقة.

في فلسطين الراهنة، يشترك السِّياسيون، ومهنئوهم بأعراس الديمقراطية، في المسؤولية عن استمرار الواقع النكبوي الذي تبدو فيه هذه الشريحة بأعباء الدفاع عن انتخاب لا انتخابات فيه، بل مسخرة قد لا تحرمهم من دخول التاريخ، اللهم كما دخله الشاعر العربي ابن الحجاج: "... وكان مجدداً في الحمق، والسفاهة، والبذاءة، والإمتاع. وكان نديماً لوليِّ الأمر. وكان يُوضَعُ على زلَّاقة. وكان يُدْفَعُ في بركة الماء التي في القصر. وكان وليُّ الأمر يأمرُ الخدمَ فيخرجونه بشبك الصَّيد. وكان وليُّ الأمر مستأنساً ضاحكاً. وكانت الرعيَّة مستبشرةً بسعادته".