الثلاثاء  19 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"صفقة القرن" أو المحطة الأخيرة لقطار "أوسلو" بقلم: ناجح شاهين

2019-06-23 11:09:49 PM
ناجح شاهين

بحسب معلومات جروزالم بوست (22/6/19)، فإن مسؤولاً سعودياً كبيراً قد قال إن "التاريخ والله قد وفرا الفرصة الحقيقية" لإنهاء الوضع الدموي الطويل المتصل بالصراع مع إسرائيل. وأضاف الرجل أن الفلسطينيين الذين يرفضون صفقة القرن يفتقرون للمسؤولية. وأن السعودية والخليج ومصر والأردن يعلمون حق العلم أن زمن الذهاب إلى الحرب ضد إسرائيل قد ولى إلى غير رجعة. من ناحية ثانية يرى الرجل أن من العار أن الساسة الفلسطينيين يريدون حرمان شعبهم من 50 مليار دولار ستجلبها لهم صفقة القرن. كذلك أوضح الرجل أن أصعب القضايا تصبح قابلة للحل عندما يفكر الفلسطيني بمعدة مليئة وبيت جميل مزود بوسائل الراحة.

من جهة العرب أنفسهم يرى المسؤول السعودي أن فوائد العلاقات الطيبة مع إسرائيل لا تعد ولا تحصى. ومن ضمن ذلك الاستفادة الهائلة التي سيحصل عليها العرب من تقدم التكنولوجيا الإسرائيلية!

لكن لماذا نستغرب مثل هذا التفكير؟ لقد حدث ما حدث في سيرورة سياسية خططت لها إسرائيل في سياق ُموات تجسده محاور ثلاث واضحة المعالم حاسمة التأثير:

1.      عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي. وذلك أمر شاركت فيه قيادة الشعب الفلسطيني التاريخية ممثلة بمنظمة التحرير وقائدها الرمز ياسر عرفات، التي حلمت طوال الوقت مثلما عملت، من أجل إبعاد العرب عن التدخل في الشأن الفلسطيني. وقد كانت سوريا أبرز العرب الذين تم إقصاؤهم عن التدخل في الملف الفلسطيني.

2.      تكريس التوجهات الإقليمية تماما التي أصبحت "مشروعة" بعد اتفاقية "أوسلو" بحيث اصبح من حق دول "سايكس بيكو" أن تدعي لنفسها صفة الأمة لتنتشر شعارات علنية ترفع عالياً في المطارات ومداخل المدن والموانئ، من قبيل "الأردن أولاً" أو "لبنان أولاً" أو "الإمارات أولاً" ...الخ. هكذا تم تمهيد التربة السياسية/النفسية لكي يمارس كل بلد سياسته بمنأى عن "الأمم" الأخرى، بما فيها "الأمة" الفلسطينية الحالمة بدولتها المستقلة.

3.      شرذمة المؤسسة السياسية الفلسطينية ذاتها، وإقحامها في مصالح اقتصادية وسياسية تشل قدرتها على الفعل المبادر، وتصل بها إلى حالة شبيهة بما صرح به المسؤول السعودي من ناحية النضال المسلح ضد إسرائيل. وقد توصل رئيس السلطة الفلسطينية المؤسس ياسر عرفات إلى الإقرار بهذه "الحقيقة"، ثم تلاه خليفته محمود عباس الذي كان أكثر وضوحاً في هذا المجال. وقد مثل ذلك على ما يبدو بالنسبة لإسرائيل بداية الاستسلام الفلسطيني التام الذي يمهد الطريق دون عقبات تذكر للتقدم نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي لإسرائيل.

يبدو لنا أن إسرائيل قد فكرت في ذلك الهدف منذ 1967 بغرض إصلاح "الخطأ" الذي وقع في العام 1948، والمتمثل في "الفشل" في تفريغ فلسطين كلياً من سكانها. لذلك بدأت السياسة الإسرائيلية التي رسمها بعد حرب حزيران حزب العمل الذي قاد مؤسسوه حرب "الاستقلال" سنة 48 في خلق الوقائع على أرض الضفة الغربية، بغية ابتلاعها التدريجي. كانت فكرة ضم الضفة فورا –مثلما حدث مع القدس مثلا- فكرة غير واردة بالنظر إلى المعارضة الشديدة التي كانت ستواجهها إسرائيل من قبل العرب و "المجتمع الدولي" على السواء. لذلك تمت عملية صبورة بعيدة المدى تم فيها استيطان الأراضي ببطء وثبات طوال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. بالطبع تسارعت هذه العملية بشكل مذهل بعد اتفاقية أوسلو ثم تلقت دفعة أكبر بعد الربيع العربي الذي فتح الباب على مصراعيه للتحالف الإسرائيلي العلني والسري مع العديد من الدول العربية، خصوصاً وأن حضور القضية الفلسطينية قد تقزم كثيراً في وعي المواطن العربي وفي أروقة السياسة الدولية على السواء.

عند تفحص "الوقائع على الأرض" يظهر لنا أن أراض كثيرة في الضفة الغربية قد أصبحت بالفعل في حوزة المستوطنات الإسرائيلية التي ارتفع عدد سكانها إلى ما يزيد على 700 ألف نسمة. ويبدو أن الأحزمة العسكرية أصبحت تبتلع ما يربو على 36 في المئة من أرض الضفة، بينما تركت "أوسلو" مساحة تقترب من ثلثي الضفة في سياق أراضي "ج" الخاضعة للسيادة الإسرائيلية التامة.

الآن يبدو بحسب السفير ديفد فريدمان وغيره من الساسة الأمريكيين أن الوقائع على الأرض لا تسمح بقيام دولة فلسطينية، وأن الضم التام لأراضي المنطقة "ج" أو أراضي الضفة كلها هو الخيار "العملي" الوحيد.

لكن موقف فريدمان هو الجزء الصغير البارز من جبل الجليد، ولا بد أنه يشير إلى "نضج" الفكرة لتصبح واقعا بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة وعدد من الأصدقاء العرب والأوروبيين. ومن ناحية أخرى هناك بنيامين نتانياهو الذي سيذهب إلى انتخابات جديدة في أيلول، وهو في وضع صعب تماما لم يشهد له مثيلا منذ عقد من الزمان. إن "ملك" إسرائيل الداهية يعاني من تحديات فعلية، من بينها هبوط نسبي في شعبيته، ومطاردة من القضاء قد تطيح به تماماً. بالطبع نحن لا ندعي أبداً أن السياسة الإسرائيلية خاضعة للاعتبارات الحزبية أو الانتخابية حتى في حال تعارضها مع مصلحة إسرائيل. لكن تلك الاعتبارات يمكن أن تسرع قرارا مثل ضم الضفة الذي لا يعترض عليه "جدياً" أي لون من ألوان الطيف السياسي في إسرائيل.

من هذا المنطلق نتوقع أن يقوم نتنياهو بإعلان ضم المناطق "ج" إلى إسرائيل، ونستبعد في هذه المرحلة أن يضم المنطقة "أ" ذات الكثافة السكانية العالية.

سوف تشرع إسرائيل بعد ذلك، مع المحافظة الشكلية على "أوسلو" والسلطة التي تحكم باسم أوسلو، في دفع سكان مناطق "ج" إلى مغادرتها إلى الدول العربية أو الأجنبية، وإن كان ذلك غير ممكن في الحالات كلها، فلا بد من دفع الناس إلى مناطق "أ". سيأتي الزمن الملائم مثلما يتصور قادة إسرائيل الذي سيتناقص فيه سكان مناطق "أ" ذاتها إلى حد أن ابتلاعها هي أيضاً لن يكون أمراً ممتنعاً. ولا بد أن ذلك الزمن سيكون قد أسس لقبول إسرائيل بما فيه الكفاية في "الشرق الأوسط" بحيث تصبح مناطق "أ" قضية تافهة لا تثير اهتمام أحد من المحيط إلى الخليج.

هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه "أوسلو" حتى اللحظة. ولا بد أن قلب اتجاه حركة القطار في هذه اللحظة ليس بالأمر السهل على الإطلاق. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن حرباً كبيرة قد تكون ضرورية في هذه اللحظة التاريخية من أجل كبح جماح الحركة المتسارعة باتجاه القضاء التام على أي وجود عربي على أرض فلسطين. لكن هذا يتطلب أن ينهض الفلسطيني أولاً، وينفض عن نفسه غبار "أوسلو" وكل ما يتصل بها، ويحاول بالتحالف مع حزب الله وسوريا "اختراع" خلطة الترياق المناسبة لإحداث هزة عميقة في الشروط السياسية القائمة بما يردع سائق القاطرة السياسية الأمريكية وركابها من عرب الخليج وغيرهم.