الجمعة  26 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جوليا كريستيفا / فيليب سولرز: زاوج الفكر والجسد (3/2)

​ترجمة: سعيد بوخليط

2019-08-18 01:16:55 PM
جوليا كريستيفا / فيليب سولرز: زاوج الفكر والجسد (3/2)
جوليا كريستيفا

بادرت والدة فيليب إلى دعوتي كي تهنئني، بعد سماعها الأستاذ رولان بارت يمدحني على أثير أمواج إذاعة ''France-culture"، ثم همست نحوي بكيفية لطيفة، إن كنت أحبُّ الأحجار الكريمة؟ وبعد فترة وجيزة وصلني منها خاتم ألماس بديع. إنه خاتم الخطوبة، الذي أرتديه غاية اليوم، امرأة استثنائية، فاتنة، ودودة، صاحبة سلطة جذابة لم يكن في وسعها ممارستها على ابنها الذي كانت استقلاليته ذات شهرة عمومية. وفيما يخصني؛ تحولت لدي إلى سحر واهتمام، فرنسيتها المتميزة بقدر عذوبتها، دعابتها غير المبالية برياء وسطها، ثم قراءاتها حيث تبدي بهذا الخصوص عن تذمرها دون تسامح حيال تواضعها المزعوم كي تجعلنا نضحك: أحس كما لو أن نَفَس مدام دي سيفينيه (أو الماركيزة دي سيفينيه إحدى أديبات القرن السابع عشر) يغمر المكان. مقابل ذلك، كان والد فيليب، متحفظا يُبقي على كل شيء في دواخله، يفصح عن كلمات قليلة، أمينا لأقربائه وكذا حديقته. عندما حصلت على رخصة السياقة، بادرت بالتوجه صوب جزيرة ري "Ré''على متن سيارة رينو مستعملة. مائة وعشرون كيلومترا في الساعة، لم أغادر بعد مدينة أورليان، فإذا بالسيارة تتدحرج نحو وسط واد، فقط بضربة حظ، انتشلت نفسي من ذلك مع رضوض في الأضلاع. لن أنسى أبدا المجيء السريع لوالد فيليب بعد تلقيه الخبر من طرف رجال الدرك، وكذا سخاء رعايته طيلة شهر، فترة مكوثي في جزيرة "ري"، لم أعرف طيلة حياتي فترة نقاهة أكثر نعومة.

*صامويل دوك: مع ذلك، تقولون اقتضى الوضع ''استحقاق'' هذا الاحتضان الفرنسي، على مستوى العلاقة الزوجية؟ وأسرة الزوج؟ وكذا بالنسبة لـ "الفكر الفرنسي"؟.

*جوليا كريستيفا: في كل مكان ودائما، مع ذلك يلزم تبيُّن التفاصيل الدقيقة. بالتالي، لنبقى عند فيليب؛ لقد أطَّر لقائي بفيليب توافقا جسديا وفكريا يتحقق خلال اليومي ويمتد زمانيا عبر النقاش، واتسم نقاشنا بالإفراط في التسلية. بالتأكيد، كما الشأن مع جل الثنائيات الصلبة، يتقمص أيضا كل واحد منا أثناء الحوار، دور الأب والأم، الطفل والطفلة، الأستاذ والتلميذ. لكن، إبان تناظرنا، تتعقد الأشياء. أبذل قصارى جهدي كي أفهم وأبرهن، ينخرط فيليب في اللعبة، ليس تماما، يطرح مختصرات، دعابات، ثم أعيده إلى الصواب، يسرع في إظهار الإيماءات، تضاف موضوعات جديدة إلى السجال، ثم يصير النقاش متعدد الأصوات. تلامس خلاياه العصبية الهائجة حقولا جديدة، تصريحا وتضمينا، ربما فقدنا الخيط الرابط، ليس بهذا المعنى تحديدا؛ بل يكون التناول أفضل. ثم نضحك في النهاية! ألا يعتبر الأكثر وضوحا قياسا لباقي التجليات؟ هل تتابعون كلامي؟ مع هذه المجابهة وجها لوجه، تضمحل الهويات الاجتماعية، السيكولوجية والجنسية، وحدها الحركة تهيمن على السياق. لا تعتقدون بأن هذا المنطق يتبدد مع انتهاء وجبة الطعام، بل يعضد طريقة تفكير تميز فيليب، الذي يأسرني، يشعرني بالبهجة، ويعلمني أن أصير أكثر ليونة. 

*صامويل دوك: يلزم امتلاك ميكروفون من أجل توثيق "هذا الأسلوب في التفكير" أثناء النقاش…

*جوليا كريستيفا: يمكنكم الوقوف على ذلك عبر حوارات عديدة أجراها فيليب، بحيث صدرت في نسختها الأصلية، دون تنقيح تقريبا، لأنه يكون مرتاحا جدا عندما يتحدث وفق هذا الأسلوب الفرنسي. مثلا لنتأمل نموذجا يوثق لطبيعة إجابته على حوار بخصوص فولتير، مع أن الأجوبة عن الأسئلة تمت كتابتها، فسنلاحظ نفس الارتجاج الذي يسود الذاكرة، يسرع بالزمان، يصادم الاستشهادات، مقتحما الفضاءات ثم يمزج الجدي بالهزلي، حينما يحدثني وهو يرتشف شرابه، بينما يتظاهر أربعة مليون فرنسي ضد الهجمات الإرهابية على صحيفة شارلي إبدو وكذا محلات ماركت كوشير، وارتفاع مبيعات كتاب فولتير رسالة في التسامح:

"الصحفي: مع ذلك يعتبر فولتير ربوبيا، وقد عاتب عليه اليسار ذلك بما يكفي. ألا يشكل الأمر تناقضا؟

سولرز: بالتأكيد، بل هاجم المتعصبين والنساك أكثر من الله، ومع نهاية عمله رسالة في التسامح، يتوجه فولتير بصلاة إلى الله ،قائلا: "لم تهبنا قط قلبا كي نكره وأيادي نذبح بها". ثم يضيف، بسخريته المتفردة: "إذا لم يكن الله موجودا، فينبغي لنا أن نخلقه". تلك فرضية جريئة قياسا للحقبة التي لا تتكلم أبدا عن وجود الله. إنها فكرة ''الدين الطبيعي" التي دافع عنها البعض من الموسوعيين، معتبرين دليل ذلك مثل ''نور طبيعي". في نفس الوقت، يكرر فولتير بأن هذا الدليل حظي دائما، بإقرار عدد قليل جدا من المناصرين، سيتعرضون باستمرار للاضطهاد. إنه متشائم جدا وساخر دائما. في منطقة فيرني، عمل على هدم كنيسة خاصة، مجاورة لقلعة، بهدف توسيع بنايتها. لكن جراء الاحتجاجات، بادر إلى إعادة بنائها ثم نقش على لوحة في المدخل العبارة التالية: يشيد فولتير من أجل الله. هنا أيضا، أيّ سخرية، بحيث يستخف فولتير بالله من أجل الله، عبارة غير مألوفة كثيرا، تخيلوها مكتوبة على ورقة نقدية كما الشأن بالنسبة للدولار في الولايات المتحدة الأمريكية".  

*صامويل دوك: وأنتم الشخصية الجادة جدا، والرسمية جدا والمتمكِّنة، أتصوركم بجوار فيليب، قد فقدتم قليلا جانبكم الوقور، بحيث تصبحون فتاة صغيرة مع هذه الابتسامة المميزة جدا التي لا ترسمونها سوى في وجه فيليب، أحدس حينئذ شخصية تنعم بسعادة عفوية، متألقة، مسرورة. هل بوسعكم أن تحدثونا حاليا عن زواجكم، وكذا مراسيم الاحتفال؟ كيف تعاملتم مع ذلك؟ ماذا يمثل بالنسبة إليكم؟ وكيف عشتم اللحظة؟

*جوليا كريستيفا: اعتقد فيليب بأنه لن يتزوج أبدا، "فقط مرة واحدة'' وقال: "لما لا؟" خاصة أن ذلك سيشكل الوسيلة الوحيدة من أجل إضفاء الشرعية على إقامتي في فرنسا. حضر نفر قليل إلى دار البلدية في الدائرة السابعة (كنا نقطن شارع بوررويال): جاءت أختي إيفانكا من بلغاريا، ثم الكاتبان مارسلينن بلينيت وجين لوي بودري، عن هيئة تحرير مجلة تيل كيل، باعتبارهما شاهدين في ظل غياب للآباء، ثم توجهنا جميعا إلى مطعم "لابوشري" على ضفاف نهر السين، كنت وفيليب نتردد عليه. مفاجأة: تواجد لحظتها في عين المكان، أراغون وإلزا يتناولان الغذاء بهدوء. لم نلتقيهما قط سابقا هنا! تبادلنا التحايا، لا تفسيرات، فالزواج لم يكن في حاجة للإعلان. إجمالا، لقد فهما بأننا ''نتواجد معا'' و نحتفل بشيء ما.

*صامويل دوك: ليس في وسعي تخيل زواج متكتِّم جدا بالنسبة للثنائي سولرز- كريستيفا، ولا كذلك صخب زواج بورجوازي. لقد تحدثتم عن لحظة بسيطة، جميلة، وزاهدة. 

* جوليا كريستيفا: تأسفت بالتأكيد لعدم حضور الآباء، رغم ذلك كانت لحظة جميلة، حميمة تقريبا.

* صامويل دوك: ربما هي طريقة كي يُختزل إلى أقصى حد حضور''المجتمع'' بينكما معا؟ كيف تعاملت أسرتكم مع سولرز؟ وكيف استُقبل في بلغاريا؟

* جوليا كريستيفا: للحسرة لم يذهب فيليب قط إلى بلغاريا. بدعوى، أنه إذا جازف نحو القيام بمغامرة من هذا القبيل، سيلقى به هناك في معسكر للاعتقال أو في سجن مثل أي منشقّ (ضحكات) .

* صامويل دوك: آه! لماذا؟  

* جوليا كريستيفا: صحيح كان يمكنه إثارة فزع الدوغماطيقيين، وكذا الشرطة نفسها، نتيجة حريته في الإفصاح عن آرائه، وكذا طبيعة مواقفه "اليسارية" التحريضية. أظن خاصة، بأن ذلك  عَكَسَ طريقته لتأكيد استقلاله ضد العادات العتيقة التي تلزم الخاطب كي "يطلب يد" زوجته أو "يلحق بها'' عند "أهلها''. فضلا عن قراءته للأرثوذوكسية المسيحية والأدب المستلهم لها أو المتجرد عنها، اتسمت بكونها لاذعة  جدا، حتى لا أقول مدمِّرة، حينما يستسلم إلى أوج سخريته الفولتيرية. كذلك، مع أني لم أكن حقا ممثلة نموذجية عن الذهنية الأرثوذوكسية (بوسع أبي تقديم الدليل القاطع بهذا الخصوص!)، ولا حتى لروح العنصر السلافي Slave؛ فقد شعرت جدا بهسيس سخرية صاحب رواية نساء (المقصود هنا سولرز). أيضا يتهكم من طقس كرسه بعض الكتَّاب الفرنسيين لصالح زوجاتهم الأجنبيات القادمات من الشرق.يتجه تفكيري نحو بول موراند، مع شعيرته الجنائزية الأرثوذوكسية؛من خلال مزيج رماد لمدينة تريستا (الإيطالية) وكذا رماد زوجته الأميرة الرومانية سوتزو، ثم تطلع لوي أراغون، إلى عيني إلزا والشيوعية. 

لقد أحب والدايّ فيليب، بل كثيرا، كذلك الشأن بالنسبة لأختي إيفانكا. كان اقتحام الستار الحديدي معقَّدا؛ بعد رفض منح التأشيرة اكثر من مرة؛ نجحت مساعينا أخيرا، بفضل التماس أسرة فيليب، المساعدة من جاك شابان دلماس، عمدة مدينة بوردو وأحد المعجبين بالكاتب سولرز، هكذا صار في وسع عائلتي المجيء إلى فرنس كل ثلاث سنوات! في باريس، فضل أبي الاستغراق متأملا كنيسة نوتردام دو باري، وكان على وشك التحول إلى المسيحية! تعزف أختي الكمان لفيليب، ثم يروم حين انتشائه، مازحا بكيفية ساخرة من التكوين المتين لإيفانكا في معهد موسكو للموسيقى، كاشفا عن نزوعاته إلى الأسلوب الباروكي. بينما أضحت ابتسامة أمي، أكثر صفاء. كانت أختي تتكلم سلفا فرنسية ممتازة، فلغة فيكتور هيغو (متداولة جدا في بلغاريا) هكذا استعادتها تدريجيا ذاكرة والدايّ، لاسيما في جزيرة ري Ré و بوردو، حيث تعرفا على أفراد أسرة فيليب. 

من بين الصور التي ما زالت عالقة في ذهني من تلك الفترة: عاد أبي، مفعما بالغبطة وسلة ممتلئة، بعد قضائه فترة يصطاد السمك في حوض لتربية المحار، توفر لنا خلال تلك الحقبة. فقد صادف "أقصى حالات الجزر''، لم يعاين لحظة من هذا القبيل، سوى في البحر الأسود و الأدرياتيكي، بحيث تبيَّن له من خلال انحسار المحيط على مسافة مئات الميترات أن الأمر يتعلق برؤيا قدر كونه معجزة! كاد يطير فرحا لأن ابنته أتاحت له فرصة حضور هذا المشهد ولو مرة واحدة في حياته! لا يتوانى أبي المخلص لقناعاته، عن ضمِّي إلى الظواهر.

*صامويل دوك: تعتبر جزيرة ري مأوى لكم، فردوسا خاصا، وملاذا.

*جوليا كريستيفا: يعود توقيع العقد التوثيقي لهذا الفضاء إلى لويس السادس عشر، أحد أشقاء والد جدِّ فيليب، كان بحارا، أسدى خدمات للتاج. تكشف صور تعود إلى بداية القرن العشرين؛ بيتا ريفيا ثابت الأركان، يدير ظهره للبحر وتحيطه أسوار، تكسوها أشجار مدارية. خلال تلك الفترة، اهتم سكان جزيرة ري أساسا بالاحتماء من الريح ولم يكترثوا بتأمل المحيط. أرضية المنزل مرتفعة إلى حد ما، لذلك لم تدمرها الأعاصير والفيضانات المتعاقبة "لم تكتسح سوى جانبا من الحديقة ثم توقفت أمام الشرفة. غير أن البيت الريفي سيدمره الألمان الذين أفزعهم نزول الحلفاء في لاروشيل. حصل والدا فيليب على تعويض بسبب مشروع إعادة البناء، بحيث زحفت البنايات الجديدة، لكن تظل ماثلة روعة مشهد قبة جرس الكنيسة وكذا لحظات غروب الشمس. أحببت هناك تقاسم هدوء ضيفي، طائر البجعة البيضاء، الصديق الأمين منذ سنوات، وقد سميته ليبنتز في رواية ساعة الحائط المبتهجة، لأن المنحى الأبيض لعنقه يطوي لانهائية السماء عبر لانهائية الماء. يجلس جدّ فيليب على الدكَّة  الحجرية، إلى جانب المكتب الحالي لحفيده، متحينا فرصة التربص ببطَّة من أجل طعام العشاء. غير أن عالَم البيئة فرض منحى آخر، لأنه يحظر حاليا اصطياد الطيور المائي. ثم، وأنا أعمل، أرى من وراء نافذتي، عائلة صغيرة من البط البري مستسلمة للهدهدة على ذراع البحر الذي يغذي المستنقعات المالحة. تقريبا، أصبحتُ جزءا من هذه الجزيرة. ذات ظهيرة، وصلتُ البيت الريفي ثم بقيت وحيدة بينما توجه فيليب إلى البريد، فأتاني حارس الحقل، مصحوبا بامرأتين تحملان سطولا مملوءة بالمحارات، قائلا: "لقد وجدتهما عند حوض تربية المحار". ابتسمت في وجهه، بحيث لم أتبيّن أي مشكلة في ما حدث، ثم كرر ثانية إقراره، فانتهيت إلى سؤاله: "ماهو المبلغ الواجب دفعه؟". أعلم جيدا أنه لدينا حوض لتربية المحار، لكن غاب عن خيالي – أنا القادمة من الشرق الأوروبي- إمكانية أن يكون البحر، الغابة، المحارات مِلكية خاصة! رجع فيليب، ثم طمأن حارس الحقل، المنذهل جراء ردة فعلي، مقترحا عليه إجبار المخالفتين على تأدية غرامة لصالح أطفال عمال البحر. تذوقنا المحارات، لكن انسابت إشاعة مفادها أن الشاب السعيد (فيليب) اختار زواجا سيئا.

*صامويل دوك: أدى موقف فيليب سولرز، إلى تتويجكم بكيفية ما، ما يجعلني أشعر بأن التلميذة تجاوزت أخيرا الشخص الذي اعتبرته أستاذا. أنتما تشكلان موضوع اعتراف وطني ودولي كبير، ألا تحدث هذه الصورة العمومية نوعا من التنافس بينكما، بل والغيرة؟ أحيانا، أشعر بوجود "تفرع ثنائي" إلى جماعة كريستيفا وأخرى تابعة لفيليب سولرز، كما لو تحتم الانتماء إلى هذا الجانب أو ذاك، السعي نحو هدم هذا الزواج "مستحيلا''. فهل أحسستم برغبة مجتمع الفرجة كي يسلط الضوء على خلاف ضمن طيات تفاهمكم؟

* جوليا كريستيفا: نعم، ينتشر ضجيج، ومنظومة "صور'' مثلما أشرتم، "يكره خصوم سولرز كريستيفا، وأصدقاؤه وصديقاته لا يحبونني، أيضا نفس التقييم بالنسبة لبعض أفراد المحيط القريب مني. خلال فترة إقامتي المرضية بمستشفى كوشين؛ صدرت مقالة في جريدة اليمين المتطرف تعتبرني أنني أعمل لصالح المخابرات السوفياتية (ك.ج.ب). وظهر، بأن الفكرة، تعود لصاحبها جان إدرن هاليير، لم يكن يعرفني، فقط "نكاية'' في سولرز. ثم هل من الضروري التعليق على محاولة التخريب البئيسة لسوكال وبريكمونت، وهما ارتكبا خلطا بين استعارات الرياضيات التي وظفتُها (مثل أخرى كثيرة) مع نماذج علمية، انتقادات دحضها كليا الفيزيائي مارك ليفي لوبلون، أو يلزمني التذكير بتلك الشتائم الفاحشة والمعادية للسامية الصادرة عن مدعيات لنصرة قضايا النساء إعلاميا، يفترض أنهن متحمسات للكتابة الطليعية؟ أقول لكم ذلك مثلما أفكر فيه: أمكن هذا الوحل أن يثبط همتي خلال لحظة، لست غير مبالية، بل أغض الطرف وأتوخى في الحقيقة البقاء متماسكة. ثم أنعطف مختلفة نحو آفاق جديدة ومتعددة. لكل واحد منا عالمه الخاص، أضحى عالمي متعددا، يتضاعف كل يوم، حتى آخر العمر. لذلك، لايهم ''أن يتكلم هذا"! ثم أكثر إضرارا وإنهاكا للجسد ''أن يراقبك ذاك''!. لقد عبَّدتُ الطريق، ويستمر السفر، لأنّي وفيليب على اتفاق، بأن الحياة تكتب، وبأن الكتاب يمثل الحياة. نحن ثنائي يؤلفه أجنبيان متناغمان، أصوات، رؤى، كتابات مختلفة، توافقات تتطابق باستمرار وتتجدد. وحدنا، مع الزمن، الذي يضفي إيقاعا على التجربة.

*صامويل دوك: هل حدث أن اكتشفتم بعض سماتكم ضمن شخصيات بطلات رواية فيليب سولرز؟ ومن المفضلة لديكم؟.

*جوليا كريستيفا: تحديدا، متغيرة مع مضي الزمن. أعاين ملامح تشبهني مع شخصيات عديدة مركَّبة في روايته: نجمة العاشقين، تحيلنا غالبا وباستمرار على فضاء جزيرة ري. خلال اللحظة التي نتناقش فيها، تبدو لي شخصية ''مود' 'Maud وكذا "تماسكها الفولاذي" الأقرب إلي:

"تعتقد مود أننا نعيش رواية أبدعتُها، تتعقبني، وتؤمن بي. بدأ كل شيء بفضل عنادها وكذا لطفها. بداية، تجلت الريبة، ماذا تريد هاته، الطالبة، جيد، نعم، طيب، شابة سمراء، جميلة، قصيرة، رشيقة، راقصة، نظرة سوداء تسخر بعمق، لحن، إيقاع، بل العقل نفسه. عفوا أيتها الغبيات… لماذا تلك المرأة؟ ببساطة الطراوة، اللطف. ليس البراءة، لا نحلم بذلك، بل شيئا أكثر استثنائية، وإثارة. كيف نسميها؟ نقاء؟ استخفاف، ضحكات وصرخات مستنكرة. لنحتفظ مع ذلك جانبا بالتسمية، ونرى أمرها فيما بعد. فلا شيء يصدر عنها مثاليا، ولا غشيما، ولا مكبوتا، إنها جوهر أتى من بعيد جدا، أبعد من جسم مادي؛ إنها كثافة معدنية. يلزم وعاء الخبث، الحويصلة المهبلية الصفراوية، التواجد حقا ضمن حيز ما، لكنها حاليا منعدمة، إنها داخل موسيقى الحياة، بين طيات اعتباطيتها السعيدة. لماذا تحبني جدا؟ لأني أثبتت دون قول شيء هذه اللحظة من وجودها، تحتاج الأجساد البشرية إلى هذا الصمت المداهِن، منعزلة عن عظامها، خلاياها، أوتارها العضلية، وفقراتها. هكذا نهتدي حسب مسار نومهم الناجح: يحسون بذلك، ويشكرونكم". (رواية ''نجمة العشاق''، غاليمار، 2012، ص: 12-17).

*صامويل دوك: على إيقاع هذا الوصف، أفكر في الشخصيات الذكورية لرواياتكم، لاسيما أحدثها عهدا أقصد اسم "تيو'' Théo، ورواية ساعة الحائط المبتهجة، ثم موقع الشخصية ضمن الثنائي الذي شكله مع الرَّاوية.

*جوليا كريستيفا: فعلا، وحسب طابع آخر، هكذا تبدو الحرية في تصور "تيو'' و"نيفي" Nivi:

"أنتَ لست بمعبر ولا منفذ، أنا لست أبدا في حاجة قط إلى الضوء، بل إلى الليل فقط، والأوكسجين، وموت صغير، نعم ليس كبيرا. لقد امتلكتُ كل شيء، وما زلتُ أتطلع، ها أنتَ تمنحيني الآن ما أفتقده، العزلة المطلقة، عزلة زاخرة بكَ… كيف أسميكَ؟ سوليس؟ تبدو لي الكلمة شمسية بما يكفي، استثنائية وقاطعة. كي أكون صائبة؛ لا ينبغي لي المناداة عليكَ سوى أنت، دون اسم، سرّ توأمي، أنا فيكَ، وأنت لي، يا نيزكي، وعزلتي الأخرى، وبدايتي. لست في حاجة قط إلى الاستناد على الجزع كي أكتشف بأني أفتقدك، أرتجف جراء ذلك باستمرار، ولا أتخلص منه سوى فترات متقطعة. ما الغاية؟ هكذا مجرد لا شيء. لقد اخترتُ المجاني، وأتمتع حاليا بلحظاته أكثر قليلا. تخترقني نظرتك، تنصهر اليدان ملتصقة إحداهما بالأخرى، نتابع هذا الفيلم المسمى عالَما، دون أن نراه. نَفَسُكَ، عِطْرُكَ، صوتُكَ الذي أرتوي منه وأتغذى عليه خارج الزمان: عندما تكون معي، وأنا بصدد الإصغاء لرسائلك الصوتية، أو قراءة أخرى نصية قصيرة وكذا الإلكترونية، أحلم بكَ، أتذكركَ، أعيد خلقكَ. وأنا أخلقكَ... حاليا: تجمع اللحظة المتمددة عوالم متباعدة في أزمنة مشتتة، ثم تتعايش أخرى منبثقة وتتميز من خلال اللقاء بين تيو ونيفي وكذا ساعاتي الملِك، نتطابق جسدا، قلبا، مستقليْن ومترابطيْن. يندفع الجنون لكنه تحت سيطرتنا الدقيقة. كل شيء ممكن مثلما أن كل شيء يتوارى. اكتمال لما هو خارج اللعبة'' (جوليا كريستيفا، ساعة الحائط المبتهجة، ص16 ، 17 ،18).

مصدر الحوار:

جوليا كريستيفا: حوارات مع صامويل دوك. منشورات فايار. 2016. ص120- 130.