الحدث- مي هماش
في فلسطين، اصطدامك بناجي العلي أمرًا محتم عليك، ستواجهه على الجدران، وسيظهر في لاوعيك، وفي ممارستك، ستجده عندما تبحث عن كل الأشياء الآخرى يواجهك.
تجده وأنتَ ذاهب لمصافحة عدوك وبناء جسور السلام معه، ستراه غاضبًا ساخرًا لضعفك وهزيمتك، ستجده وأنت تقاوم على التلال سلاحًا وإيمانًا لك، وستجده أم الأسير والشهيد يسقيها ماء الصبر والفخر، سيجده التلميذ في كتبه يعلمه رسم خارطة فلسطين كاملة، ستراه وشعبك ينقسم ينظر علينا من الأعلى ويمحو ضمير الأنا ويعنفكم بنحن، ستراه يُكسِّر أقدام كراسي الشرعية ويضع مكانها مبادئ عكازات المصابين من رصاص الاحتلال.
ناجي العلي يُعيدنا إلى المكان الّذي يجب علينا أنّ نكون فيه، يرسم ماضينا ليبقى يواجهنا، لأنَّ فهمه والتعلم منه هو ما يمهد لنا الطريق نحو التحرر والتعلم، فهو ذلك الصوت العدمي الّذي يصرخ بنا وعلينا، ولكن الاستجابة مع هذا الصوت تشوهت بمقدار تشوه المفاهيم الوطنية والتضامنية، بمقدار تواطئنا مع ممارسات العدو، بمقدار خيبة كل فلسطيني مُهجَّر خارج بلاده يُعاني من سلطوية دولته المضيفة ومن آماله وطموحه بالعودة إلى وطنه.
صوت العليّ يقول: "الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا القريبة، إنَّها بمسافة الثورة". الثورة بكل ما يستطيع الإنسان أنّ يثور به، إيمانه ورباطه وصبره، زغاريد النساء على استقبال قافلة شهداء، تسابق الأطفال في الشوارع مواجهين الدبابات، فما زال التاريخ يُقدس لليوم صورة فارس عودة الّذي واجه بصدره وكفيه وحرًا وملتوف دبابة تخطو باتجاهه في حرب محسومة نتائجها، ولكنها الثورة لعدالة القضية.
ثورة تستخدم السلاح من الحجر والسكين والكلاشينكوف، ثورة يكون الجسد فيها هو الأداة والوسيلة، كما وثورة بإعادة بناء كل منزل يُهدم لأنَّ ساكنيه مقاومين ثائرين، وإعادة بناء كل منزل يهدم بهدف التهجير، إعادة بناء وجودنا بكل عملية محو وإنهاء لوجودنا، الثورة هيَّ أنّ تكتب أمام مَنّ ينفي وجودك، الثورة هيَّ أنّ تدخل سباقًا في كتابة التاريخ وتدوين ذاكرتك، وتخليد وجودك.
يقول العليّ أيضًا "إللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت" الموت هو المعادلة الّي يفرضها المستعمِر الصهيوني على أدق تفاصيل حياتنا، الموت هو الصمت الّذي بات يتقن فنه الكثير، مُقابل هذا الموت وجودك تكتب وتُدون التاريخ، تدون ذاكرتك ووجودك، تدون أسماء قراك ومُدنك، تُدون أسماء الشهداء والأسرى، ترسم الخارطة كاملة دون ميلان في خطوطها، أنَّ تُدرك أنتَ كفلسطيني أنَّك عليك الاصطدام والمواجهة لكل ما يُبعدك عن وطنك وانتمائك، أنّ ترفض وتستهجن وتستنكر، أن يعلو صوتك كصوت البندقية، أنّ تكون حادًا حازمًا في حقك بالحياة والحرية، فالعليّ اختار الشهادة الحقيقية بالموت وهو يتكلم ويرسم، وهو يحمل رسالته كرسول يُثبت الفلسطينيين على إيمانهم، لكنَّ قوة الصمت المهزومة كانت أخبث في التخطيط للقضاء على جسد العليّ دون فكره وصوته واسمه، وكان هذا ما أكده العليّ "هكذا أفهم الصراع: أنّ تصلب قاماتنا كالرماح ولا تتعب".
فالصراع بالنسبة لناجي " أنّ نكون أو لا نكون، التحدي قائم والمسؤولية تاريخية" هذه المفاهيم الّتي تجبرنا على الإنخراط بها كلما مررنا بثقافة بائسة، أنّ نكون على قدرٍ من المحبة الكبيرة والإنتماء للوطن، فعندما ينتهي ويذهب كل شيء يبقى الوطن حاضرًا كما ألفته أول مرة، لا يتغير، لكن من يتغير هو نحن ومواقفنا، لذلك فمسؤوليتنا التاريخية تقتضي علينا السير دائمًا بخطى واثقة نحو الوطن، نحو الحب، نحو الأمان، نحو فلسطين.
