الثلاثاء  19 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

علينا أن نبني جيلاً قوياً ليس مهزوماً

2019-10-21 06:09:47 AM
علينا أن نبني جيلاً قوياً ليس مهزوماً
أ.د. جولتان حسن حجازي



كتبت لـ الحدث: أ.د. جولتان حسن حجازي


خلال الأسبوع الأخير، تصدّر موضوع ضرب المعلم لطلابه في أحد مدارس الخليل الأخبار في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وانقسم الناس إلى متعاطف مع الطلاب، أو متعاطف مع المعلم.
مهما يكن، فقد جاء موقف الناس في معظمه موقفاً عاطفياً مبنياً على انطباعات شخصية بعيدة عن التحليل العلمي للموقف، فما من شك في أن ما حدث يمثل وفقاً للمعايير وللنظريات التربوية والنفسية هو عنف موجه من المعلم للطلاب، وأن آثاره السلبية حتماً ستنعكس على شخصية الطلاب المعنفين.

لا أحد يستطيع أن ينكر أننا نتعامل مع جيل مختلف، جيل يتميز بالعناد والتمرد والاتكالية، والتي تنعكس على كل تصرفاتهم، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن ما أصاب هذا الجيل هو نتيجة حتمية لكل العوامل والظروف التي عاشوا فيها، ولعمليات التنشئة الاجتماعية التي تعرضوا لها سواءً من الأسرة، أو المدرسة، أو المجتمع، أو المساجد، أو الأحزاب، أو وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي.

كانت الأسرة والمدرسة حتى عهد قريب هما المؤسستان الأهم في عملية التنشئة، لكن حديثاً ووفقاً لكل الدراسات، فقد تراجع دور الأسرة والمدرسة لصالح المؤسسات الأخرى؛ خاصةً وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

في ظل هذا الانفتاح لم يعد النموذج هو الشخص الملتزم "النرد" كما يسميه الجيل، وإنما الشخص المنفتح القادر على الاتصال والتواصل وصاحب الشخصية المستقلة ذو التفكير الناقد المتمرد على كل ما لا يقتنع به أو يمليه عليه غيره، القادر على التعبير عن رأيه بجرأة وشجاعة.

ومما لا شك فيه أن هذا النموذج هو المطلوب وفقاً لمهارات القرن الحادي والعشرين، والذي تتبناه مناهجنا الفلسطينية، حيث تركز على الحقوق والواجبات، وكما يقول صغيري دائماً "من حقي التعبير عن رأيي كما درسنا في المناهج والمقررات".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الضرب والإهانة من قبل المعلم هي الطريقة الأمثل للتعامل مع طلاب الجيل ؟

بالتأكيد لا؛ وفقاً لكل النظريات التربوية والنفسية والمناحي التربوية، والتي تؤكد على فشل العقاب كوسيلة لإحداث التغيير المطلوب لتعديل حقيقي في سلوك الطلبة، ووفقاً لتجاربنا جميعاً، فلم يسجل الضرب والعقاب الجسدي أية نجاحات تذكر على صعيد تعديل سلوك الطلاب، فأنا شخصياً، ومن خلال تجربتي المدرسية، لم يتغير سلوك زميل من زملاء الدراسة تغييراً إيجابياً بسبب الضرب، بل ساهم في تسرب هؤلاء الزملاء بسبب ما أحدثه هذا الضرب من تشوهات نفسية لديهم دفعتهم لترك مقاعد الدراسة.

إن السلوك المشكل من قبل الطلبة إنما هو عرض من أعراض سوء التكيف، نتيجة لما يتعرض له الطفل خلال تنشئته من خبرات مشوهة ومؤلمة وعقبات مادية ونفسية تحول دون إشباع حاجاته المختلفة، كما تخلق لديه مشاعر عميقة بنبذ الآخرين له، وانعدام الأمن والطمأنينة في حياته، مما يعوق نموه وتوافقه النفسي بشكل سليم.

وقد دللت الدراسات على أن معاملة الطلبة بالقسوة الشديدة، والضرب والتمييز، قد انعكست سلباً على التوافق النفسي لديهم، وأدت إلى ارتفاع ملحوظ في مستوى عدوانية هؤلاء الطلبة، كما تفيد الدراسات أن الإنسان يكون عنيفاً عندما يتواجد في مجتمع يعتبر العنف سلوكاً ممكناً، مسموحاً به ومتفقاً عليه من قبل أصحاب السلطة والنفوذ على صعيد الأسرة والمدرسة وغيرها من المؤسسات.

وما من شك أن الطالب الفلسطيني وفقاً لكل الإحصائيات، يعيش في مجتمع يعاني من العنف الناتج عن الاحتلال، والعنف الأسري الناتج عن فشل الأسرة في التعامل مع أبنائها، والعنف المجتمعي الناتج عن الثقافة المجتمعية العنيفة، حيث انتشار جرائم القتل والسلوكيات العنيفة في المجتمع والتي يتشربها الطالب

بناءً على ذلك، تُعد المدرسة مصباً لكل الضغوطات التي يتعرض لها الطالب، إذ يأتي الطلبة المُعايشون للعنف أو المشاهدون له؛ إلى المدرسة ليفرغوا خبراتهم العنيفة التي تظهر على صورة مشاكل سلوكية يتم التعامل معها بأساليب عنيفة تسبب الإساءة للطلبة، والتي تنعكس عليهم وعلى سلوكياتهم ونفسياتهم، مما يسبب لهم سوء التوافق، وانخفاض مستوى الصحة النفسية، إذ تؤدي إلى شعور الطالب بالإهانة والتهديد، وفقدان الأمن وضعف "الأنا" وعدم قدرتها على القيام بمتطلباته إزاء الذات والآخرين، لاسيما وأن قوة "الأنا" تُمثل القدرة على تجاوز إحباطات الحياة والإحساس بالكفاءة الشخصية.

إزاء ذلك وحرصاً على سلامة طلابنا النفسية، علينا وفي كل المستويات الحكومية وغير الحكومية أن نغير من سلوكياتنا العنيفة آباءً وأمهات ومعلمين ومسؤولين، ولنتجه إلى استخدام بدائل للعنف، لنتقبل طلابنا بإيجابياتهم وسلبياتهم، ونعزز الإيجابيات، ونتعامل مع السلبيات بطرق واستراتيجيات علاجية لتعديل سلوك الطلبة، ولندرّب أنفسنا ولتدربنا مؤسساتنا عبر برامج ودورات متخصصة للتعامل مع أبنائنا وطلابنا، ولندخل كل الأساليب والوسائل التربوية لنجعل بيئتنا التعليمية والتربوية جاذبة،  ولنفعّل الطالب ونُشركه في العملية التعليمية واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، ولنشعره بقيمته وذاته، ولننمي لديه كل المهارات التي تفعل قدراته الكامنة وتعزز شخصيته المستقلة، التي هي اليوم مطلباً لمواجهة الحياة بكل قسوتها وبفرصها المبنية على التنافس، علنا نستطيع أن نبني بدلاً من أن نهدم، نبني جيلاً قادراً على حمل الراية واستكمال مسيرة التحرير وبناء الدولة.