الأربعاء  24 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قنبلتان فقط لا غير! بقلم: د. سامر العاصي

2019-10-23 09:39:39 AM
قنبلتان فقط لا غير!  بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي

 

في الساعة الواحدة من صباح يوم 6 آب/أغسطس 1945، حملت القاذفة الأمريكية B 29 المسماة إنولاجاي "Enola Gay" تيمنا باسم والدة قائد الطائرة الكابتن "تيبتس"، أشنع ما صنعته يد الإنسان، وهي القنبلة الذرية التي اتفق على تسميتها ب "الولد الصغير- Little Boy"، وتُرِكَ الخيار لقائد الرحلة بإلقائها فوق إحدى المدن اليابانية الأربعة (هيروشيما، يوكوهاما، كيوتو، كوكورا)، التي تم اختيارها يوم 10 أيار من العام نفسه، وذلك حسب حالة الجو ووضوح الرؤيا فوق الهدف. ومع أن صافرات الإنذار في هيروشيما (350 ألف نسمة) أُطلِقت في الساعة 07:10 عند مرور طائرة الموت والطائرتان المرافقتان، إلا أن السكان سرعان ما خرجوا من ملاجئهم بعد أن تأكدوا أن تلك ليست بغارة جوية. والحقيقة أن حالة الجو، والضباب الكثيف، الذي لف المدن الثلاثة، جعل "إنولا جاي"، تعود أدراجها وتلقي بالولد الصغير عند الساعة 08:15 فوق هيروشيما التي كان الضباب الأبيض قد انقشع عنها تماما وأصبحت الشمس صافية فوق سمائها.

بعد 57 ثانية من إلقائها ووصولها إلى ارتفاع 600 متر؛ انفجرت أول قنبلة ذرية في التاريخ لتقتل في أقل من دقيقة واحدة أكثر من 40 ألف ياباني وكل ما هو حي يتنفس، في دائرة قطرها 3 كيلومترات من مركز الانفجار، وتحول جثثهم إلى رماد كرماد السيجارة، بعد أن وصلت درجة حرارة مركز الانفجار إلى 3500 درجة مئوية، أي أنها اقتربت من حرارة الشمس. وامتد الدمار فوق رؤوس عشرات الآلاف من السكان، واشتعلت الحرائق في دائرة وصلت الى 17 كيلو متر، وبعد 20 دقيقة أحاطت غيمة سوداء بالمدينة وحل الظلام الدامس في وضح النهار. ومع انقشاع الغيمة السوداء؛ ظهر اشباه ناس، دون أن يستطيع المرء معرفة إن كانوا رجالا أم نساء، فقد كان جلد المصابين بالحروق يخلع مع ملابسهم وسط صراخ وعويل الرجال قبل الأطفال. وبعد ساعات قليلة تضاعف عدد الإصابات بالإشعاع النووي،ليصل العدد الإجمالي للقتلى في نهاية العام إلى 140 ألف قتيل، إضافة إلى مئات الآلاف ممن أُصيبوا بأنواع مختلفة من امراض السرطان.

ومع لحظة الانفجار، اختفت كافة الإشارات السلكية واللاسلكية، وانقطع بث محطات الراديو والتلفزيون وتعطلت الهواتف، بعد أن تعطل إرسال البرقيات بين الوحدات العسكرية من وإلى المكان الذي كان يسمى قبل دقيقة... مدينة!. وعلى الفور أرسلت القيادة العسكرية اليابانية طائرة خاصة لاستطلاع الأمر، خاصة أن هيروشيما لم تتعرض بتاتا من قبل لأي غارة جوية في السابق. وجاء رد المبعوث العسكري لقيادته هستيريا!، بعد أن رأى هيروشيما التي صارت أثرا بعد عين. الغريب أن الحكومة اليابانية لم تعلن لشعبها حقيقة ما آل إليه الدمار في هيروشيما، كما أنها لم تذعن للإنذارالنهائي بالاستسلام دون قيد أو شرط، الذي صدر عن الحلفاء في اجتماع القمة في بوتسدام يوم 26 تموز. وظلت القيادة اليابانية ترفض شروط الاستسلام، وأعلن الاتحاد السوفيتي الحرب على اليابان فجر يوم 9 آب. ومع انتصارات الجيش الأحمر السريعة وتقدمه في منشوريا وكوريا وتهديده باحتلال اليابان؛ جاء إصرار الرئيس الأمريكي ترومان، بإلقاء قنبلة ذرية أٌخرى على مدينة ثانية في اليابان، لجعل ستالين يوقف تقدم جيوشه في النمسا وجبال الألب وفنلندا وفي البلقان وعدم الاتجاه شرقا إلى اليابان.

ومع أن الضربة النووية الثانية كان موعدها يوم 11 آب؛ إلا أن تقارير الحالة الجوية جعلت القيادة الأمريكية تختار يوم 9 الشهر موعدا مبكرا لإلقاء القنبلة الثانية التي سميت "بالرجل البدين Fat Man"، فوق مدينة "كوكورا". وفي حال تعطل رؤية الهدف يمكن إلقاء القنبلة فوق مدينة "نجازاكي" مركز الصناعات العسكرية. وبالفعل حلقت القاذفة "بوكسكارBockscar" عند الساعة 08:35 صباح يوم 9 آب فوق مدينة كوكورا، إلا أن حالة الجو السيئة وعدم وضوح الهدف بسبب الضباب الكثيف جعل قائد الطائرة يتجه نحو الهدف الاحتياطي. وفي الساعة 10:58 ألقى الكابتن "سويني" قائد القاذفة "بالرجل البدين" من طائرته، لتحصد خلال أقل من دقيقة واحدة أرواح أكثر من 40 ألف مواطن، قبل أن يصل عددهم في نهاية العام إلى 100 ألف قتيل. ولم يكن علماء الذرة قد وقفوا بعد، على تأثير الإشعاعات النووية المنبعثة من القنبلة الذرية على جسم الإنسان. وبعد ساعات، بدأت أعداد مرضى السرطان وأعداد الضحايا المشوهة أجسامهم، تظهر عند عشرات الآلاف من اليابانيين.

ومع أن الامريكان كانوا قد رفضوا شروط اليابان الأربعة بالاستسلام، إلا أنهم وافقوا على الشرط الأول فقط، وهو الحفاظ على نظام ال (كوكوتاي) أي النظام الإمبراطوري وعدم التحقيق أو محاكمة الإمبراطور "هيرو هيتو" ابن الشمس، بعد أن أبدى جميع جنرالات الجيش الياباني، استعدادهم بالاعتراف بأنهم لم يتلقوا أية أوامر عسكرية قد تلقي بالمسؤولية الشخصية على إمبراطورهم الخالد، وأنهم وحدهم يتحملون المسؤولية عن أية جرائم حرب حدثت.

وأطلق اليابانيون على الذين نجوا من الكارثة النووية اسم "هيباكوشا"، الذين ظلوا يحصلون على تعويضات مالية، إضافة الى الرعاية الصحية الشاملة والمجانية. الغريب أن أحد الفلاحين الناجين من قنبلة هيروشيما، ورحل عند أقربائه في مدينة نجازاكي؛ ظل حيا حتى بعد تعرض المدينة للقنبلة الثانية. ومن الجدير ذكره، أن اليابان رفضت الاعتراف بحقوق العمال الكوريين (20 ألف) الذين تعرضوا للإشعاع الذري، سواءً بالتعويض المالي أو بالرعاية الصحية.

وبانفجار قنبلتين نوويتين في هيروشيما ونجازاكي فقط لا غير؛ استسلمت اليابان بعد أن شهد العالم دمارا لم تشهده البشرية من قبل، وإن كانت على موعد كارثي بعد 41 عاما في تشيرنوبل، مع أكبر وأعظم من كارثة تلك القنبلتين، مجتمعتين، وبمئات المرات.