الجمعة  26 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المنتصرون يكتبون التاريخ| بقلم: د. سامر العاصي

2020-05-10 11:11:55 AM
المنتصرون يكتبون التاريخ| بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي

 

قرر الحلفاء، بعد عملية الإنزال الفاشلة في ميناء ديبي Dippe الفرنسي، على بحر المانش، يوم 19 آب|أغسطس 1942، وقف إكمال العملية العسكرية التي شاركت فيها 250 سفينة، حملت على ظهورها 8000 جندي، بعد أن خسرت قواتهم أكثر من ربع أعدادها، في معارك كان الألمان قد أعدوا لها جيدا. وبعد مرور 7 أشهر، أصبح مصير الحرب العالمية الثانية قد تم تحديده، بعد أن حطم ستالين في معركة ستالينجراد، الجناح الأيمن للعسكرية الألمانية. 

وفي شهر أيار من العام 1943، وأثناء اجتماع القمة بين الرئيس الأميركي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرتشل، أقر الزعيمان بأن الفرصة قد أصبحت مناسبة، للقيام بعملية إنزال عسكرية كبرى على الشاطئ الفرنسي، أُطلق عليها اسم "نبتون". وتم تحديد ساعة الصفر يوم 5 حزيران 1944، وسمي اليوم، بيوم "دي D". ولإنجاح العملية، استخدم الحلفاء شتى وسائل الخداع، من تسريبات عديدة متناقضة لموعد ومكان الإنزال، وذلك باستخدام اتصالات سلكية ولاسلكية مزيفة، لإيهام العدو بأن الإنزال الكبير سوف يبدأ في ميناء كاليه الفرنسي. ولسوء الأحوال الجوية في ذاك اليوم، فقد تقرر أن يكون اليوم التالي، الثلاثاء 6 حزيران، هو اليوم "دي- D"، ذلك أن التأجيل ليوم آخر، كان يعني احتمالية كبيرة للكشف عن الهجوم.

وفي فجر اليوم التالي، ورغم التوقعات الجوية غير المثالية أيضا، بدأت عملية "نبتون"، بمشاركة 6900 سفينة حربية، بعد أن ألقت 12 ألف طائرة، انطلقت من 163 مطارا عسكريا، بآلاف الأطنان من القنابل فوق التحصينات الألمانية، ليتم بعدها إنزال أكثر من 160 ألف جندي، على طول ساحل النورماندي، الذي يبلغ طوله 80 كم.

ومع نهاية اليوم، كان أكثر من 8 آلاف جندي قد لقوا مصرعهم أثناء عملية الإنزال، وتمت السيطرة على طول الساحل النورماندي، بعد أن صار الألمان عاجزين على حشد القوات اللازمة لشن هجوم مضاد، وهو ما حذر منه ثعلب الصحراء، القائد الألماني، أروين رومل، الذي طالب مرارا ببناء خط دفاع عسكري منيع، ليقينه التام بأن خسارة معركة الإنزال، سوف تجعل الطريق إلى برلين مفتوحة أمام أعدائه. وتضمنت خطة رومل، زرع ملايين الألغام، ووضع آلاف العوائق والتحصينات الاسمنتية على طول الشاطئ، كي يسهل له تحريك خمسة فرق مدرعة، نحو أي نقطة يتم الإنزال فيها. ولكن، وبناءً على أوامر هتلر، تمركزت هذه الفرق بعيدا عن الشاطئ، بعكس ما طالب به رومل في خطته، كما أن أمر تحريك الفرق هذه، رُبِطَ بتوقيع أدولف هتلر فقط، مما جعل رومل يردد عبارته الشهيرة:- (مع هتلر يكون الحق دائما إلى جانب الذي يقول الكلمة الأخيرة).

وأصبحت طريق برلين، من جهة "الغرب" مفتوحة، بعد أن كان الجيش السوفيتي من الشرق، قد بدأ مسيره منذ عام، غربا نحو برلين، ومع ذلك، ما زال المؤرخون والعسكريون الغربيون، يعتبرون إنزال النورماندي، بأنه أهم وأكبر عملية إنزال عسكري في التاريخ!، وفي ذلك، ظلمٌ وافتراءٌ لأكبر عملية إنزال بحري عرفتها البشرية قبل 447 عاما. 

ففي فجر يوم 29 أيار من العام 1453، احتل السلطان العثماني "محمد الثاني"، ابن السلطان "مراد الثاني"، مدينة القسطنطينية، أو "التفاحة الحمراء" كما كان الأتراك يسمونها، وذلك بعد محاولات مختلفة لأكثر من 23 جيشا، فشلوا على مدار أكثر من 1000 عام، من احتلال المدينة التي ظل تحصين أسوارها القوية، وطولها الممتد على 22 كم، تقفان في وجه كل الغزاة. ومع أن أسوار المدينة عند شاطئ، الخليج الذهبي (7 كم) كانت أقل تحصينا، إلا أن استحالة غزو المدينة او محاصرتها من هذا الخليج، كان عملا مستحيلا بسبب وضع سلاسل فولاذية قوية، كان يمكن رفعها في وجه السفن الغازية، ومنعها من دخول الخليج، إلا أن السلطان صمم حين قال:-

  •  إمَّا أن يسقط العُثمانيون أو تسقط القسطنطينيَّة.

وجاءت فكرة الوصول إلى الخليج الذهبي، بنقل المراكب الحربية إلى اليابسة، وجرها برا بواسطة مئات الثيران وآلاف الرجال، عبر طريق طوله 5 كيلومترات، ثم إنزالها إلى مياه الخليج الذهبي. 

وعمل الجنود العثمانيون على تقطيع آلاف الأشجار، وبناء طريق بري، وضعت فوقها عشرات الآلاف من الألواح الخشبية، التي صبً عليها كميَّات هائلةٌ من الزيوت والشحوم لتسهيل جر السفن بواسطة مئات الثيران والرجال، لكي يسهل انزلاقها إلى مياه الخليج. وفي ليلة21 22 نيسان، نجح العثمانيون نجاحا باهرا عندما استطاعوا نقل جميع المراكب البالغة 67 مركبا إلى داخل الخليج الذهبي، كما تم إنزال 80 ألف جندي إلى الضفة الأخرى منه. وفي الصباح، استيقظ سكان القسطنطينية على أصوات أجراس كنائسها، إعلانا بأن حدثا جُل قد وقع. وهرع الإمبراطور قنسطنطين 11، وخلفه جميع قادته ومرتزقة "جنوا" الأشداء، وكل السكان، إلى أسوار المدينة، ليشاهدوا بأم أعينهم السفن العثمانية تبحر في وسط خليجهم الذهبي، وأمامهم عشرات الآلاف من الجند العثمانيين الذين أصبحوا فجأة!، وجها لوجه، أمام الجهة الأضعف لسور المدينة، التي أصبحت الآن محاصرة من جميع الجهات، مما أحدث انهيارًا واسعا في معنويَّات الجيش والسكان البيزنطيين. 

استمرت المعارك الدموية بين الطرفين، حتى فجر يوم 29 أيار|مايو، عندما دخل السلطان محمد الثاني، المدينة على حصانه الأبيض المسمى "جان بولاد" أو جنبلاط، وهي ما تعني، صاحب الروح الفولاذية، منهيا بذلك الإمبراطورية البيزنطية، التي استمرت في الوجود، أكثر من ألف عام، وأصبح السلطان يلقب باسم "محمد الفاتح".

ومع أن التاريخ، يشهد لعبقرية هذا السلطان الذي لم يكن قد بلغ الحادي والعشرين من عمره آنذاك، إلا أن مئات الكتب والكُتاب، إضافة إلى عشرات الآلاف من المقالات ومئات الأفلام السينمائية والمسلسلات الحربية الأميركية والغربية، جعلت مئات الملايين من المشاهدين، والقراء، في شتى أنحاء المعمورة، يصدقون بأن أكبر عملية إنزال عسكري في التاريخ، كانت أميركية، ومن صنع الأميركان فقط وبامتياز!، وهو ما يعزز مقولة نابليون بونابرت حين قال: "المنتصرون يكتبون التاريخ"!