الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الثانية)

"دردشة" مع محمود درويش وعنه

2020-06-01 01:50:08 PM
محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الثانية)
غلاف كتاب: محمود درويش في حكايات شخصية

الحدث الثقافي

تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة. 

صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.

ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.

كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.

 

"دردشة" مع محمود درويش وعنه (الحلقة الثانية)

من الصعب.. إن لم يكن من المستحيل، فصل محمود درويش عن مملكته الأثيرة .. الشعر. إلا أنني خلال صداقتي الطويلة معه، وفي لقاءاتي به التي استغرقت آلاف الساعات، كان حديث الشعر.. هو الأقل .. وغالباً لم نكن نتطرق اليه، إلا حين يكون قد أصدر ديواناً جديداً، أو نشر قصيدة أو مجموعة قصائد في الصحف، أو احيا أمسية، لقد قرأته كله، الا انني حين كنت ألتقيه بعد قراءة ديوانه الجديد، لم أكن اتوسع في النقاش معه حول ما كتب، كنت استفسر منه عن بعض الصور التي أراها غامضة، وأظهر اعجابي في لقطات أراها في غاية الذكاء والتفرد، وما ان نُمضي خمس أو عشر دقائق في حديث عن الشعر، ننتقل الى الموضوع الفلسطيني المفضل دائماً، وهو السياسة الراهنة، ومن بين ثنايا الحديث، تتسلل نمائم ذكية حول قادة ونساء، ومدعي ثقافة وكتاب لهم أسماء كبيرة، إلا أنهم قليلوا الابداع، وكنا نتحدث عن أشخاص أحب فيهم تلقائيتهم وبساطتهم وايقاع الفلاح الأصلي في مظهرهم ولغتهم، قال لي: 

  • "احزر ما هو أجمل مصطلح سمعته هذا اليوم"؟

  •  قلت: وكيف لي أن أحزر.

 وسألته من هو قائل المصطلح – لعلني أعرف.

  •  قال: إنه سليمان النجاب (أبو فراس).

سليمان النجاب، مثقف كبير، ويحفظ آلاف الأبيات من الشعر القديم والحديث، ورغم تقارب السن بينه وبين محمود، إلا أنه كان يبدو شبيهاً بجده، كان لا يتحدث إلا بالعامية، مع انه مشبع بالفكر الماركسي اللينيني القائم على مصطلحات ومفردات حديثة، وكان يحرك قسمات وجهه مثل فلاح يستعين بلغة الجسد كي يوصل فكرته من اللحظة الأولى، لم يكن النجاب مجرد مورد للمصطلحات العامية في أحاديثه، بل كان يساعد محمود على تأليف طرائف لطيفة وذكية.

كان محمود حين يصاب بنوبة انفلونزا، يشعر بكم هائل من الألم، ربما أكثر مما يشعر به الآخرون، وحين تجتاحه الحمى ويهبط الرشح الى صدره، فقد كان يكابد ألمين في وقت واحد، ألم الجسد، حيث السعال شديد القسوة حد الشعور بالاختناق ، أما الألم الآخر وهو الأفدح، فكان اضطراره  للبقاء في السرير أياماً وليال طوالاً، وحين يكون مضطراً لذلك، فلا قراءة ولا كتابة في هذه الحالة.

قال لي: 

  • زارني أبو فراس، محملاً بهدايا الفلاحين المدهشة الحليب واللبن الرائب والزبدة والجبنة، ولما رأى حالتي، وكيف جرجرت نفسي كي أصنع له القهوة، أقسم أن لا أنتقل من الغرفة.

  •  "حدّ الله يا رجل.. واللهِ غير تظل قاعد، الله لا يجعل حدا يشرب قهوة ولا شاي .."انت في ايش" .. بعدين تعال هانا يا محمود، أظني صار لازم تتجوز.. يا أخي لازم حدا يدير باله عليك، بصحش اتظل لحالك عالقليلي .. بتناولك الغرض وبتعطيك الدوا..".

ضحك محمود.. ليس سخرية من العرض الفلاحي الذي ربما سمعه من أمه أو أخته أو معارفه، ولكن من الطرفة التي ساعده النجاب على تأليفها.

  • يا أبو فراس، يا حبيبي، مريض الانفلونزا بنصحوه بفيتامين سي مش "بمره".

سألته:

  •  هل هذا ما قصدته بأجمل مصطلح سمعته هذا اليوم؟

  •  قال: لا .. لا .. هذا أسوأ مصطلح، الأجمل حين دخل أبو فراس شقتي، حياني بجملة مرت عقود ولم أسمعها قال: "صح بدنُه".

لقد شده هذا المصطلح الفلاحي الخالص، والبليغ في مبناه ومعناه. وحين يعجب ملك اللغة بمصطلح شعبي بسيط، ويراه أجمل ما سمع، فذلك يظهر عمق الإنسان العادي والبسيط فيه؛ الإنسان الذي يملأه حنين لا يزول لحياة القرية التي تأسس وعيه فيها، ولمجالس الفلاحين التي كان جده يحرص على أن يصطحبه اليها، كان سليمان النجاب نموذجاً نابضاً، يعيد لمحمود أجمل الذكريات المعتقة، ذكريات الطفولة والمنشأ، والاصالة والتلقائية البعيدة عن التصنع والادعاء، ويوم توفي النجاب، حزن محمود حزناً شديداً ... بدا لي كما لو أنه فقد جده ثانية... وفي رثائه قال محمود...

بعد شهرٍ زُرْتُهُ في بيته الريفيّ.

كان كلامُهُ يبكي. لأول مرّةٍ يبكي سُلَيْمانُ

القويُّ، يقول لي متهدِّج الصوت: ((اُبن 

الغزال، ابنُ الغزالة مات بين يديَّ.

لم يألف حياةَ البيت. لكنْ لم يَمُتْ

مثلي ومثلكَ...))

كانت شخصية محمود التي شدتنا إليه، بعيداً عن النجومية الطاغية التي رافقته معظم مراحل حياته، بسيطة، ربما على عكس الانطباع المأخوذ عنه من قبل من لا يعرفونه عن قرب.

البساطة، هي على نحو ما تتجلى في التعلق بالمتع البسيطة المتاحة في كل زمان ومكان:- بداية يومه، تكون سعيدة حين يكون قد نام بتواصل ودون أرق، لسبع ساعات لا  أكثر ولا أقل.

آه .. ما أجمل النوم، كان يردد هذه الجملة باستمتاع، وحين كان يُسأل أراك اليوم مشرقاً يا محمود، كان يجيب على الفور، لقد أخذت كفايتي من النوم، يذهب جذلاً الى المطبخ، المرتب والنظيف حد اللمعان يعد قهوته، يتواطأ مع النار لتحرق بعضاً منها، وهو يفرغ الملعقة داخل الغلاية، فرائحة القهوة، تعادل طعمها وتتفوق..

آه ما أمتع القهوة، حين تراها في الفنجان، تحت طبقة من الرغوة الكثيفة ثم تستنشق رائحتها التي تملأ المكان، ترتشفها وتمتصها كما لو أنها رحيق الحياة، ويصف محمود متعة الاستحمام، في الماء الدافئ، الذي يتلوه افطار بسيط لا يكمل فيه عادة ربع رغيف من الخبز المحمص، وحين تكون الساعة قد أشارت الى الثانية عشرة أي منتصف النهار ، يكون موعد الهاتف الأول، وموعد الزائر الأول، ومثلما تكون المتع البسيطة والعادية مبعث لذة واقبال متحمس على الحياة، تكون المنغصات ثقيلة ومؤذية.

  • تعرف من اقتحم شقتي اليوم وايقظني من النوم، انه فلان.

 وهنا يكتفي بتلخيص الزيارة الثقيلة بجملة واحدة .. لقد أجهز على يومي، ولو لم يغادر لأجهز على حياتي.

***

لم يقتنِ محمود سيارة في حياته، ولم يحاول تعلم القيادة، كان يفضل استخدام سيارات الاجرة لعله يلتقط من السائق جملة أو حكاية أو فكرة، حتى أصدقاؤه الذين هم على جاهزية دائمة لنقله بسياراتهم الى أي مكان يريد، كان يدقق فيهم، مع من؟ كانت له شروط قاسية لا بد وأن تتوفر في الشخص الذي يقبل قضاء وقت ولو عابر معه.

 كان حتى مع أقرب أصدقائه شديد، الحذر في أمر حضوره وايقاعه وحتى مظهره، لم يكن ليتبسط إلا في حضرة قلة قليلة، ويجب أن  يكون متأكداً من أن أحدا من الجالسين لن يسيء فهم طرائفه ونمائمه، كان محمود مثل جملة عصبية مكشوفة، تثيرها نسمة هواء، وتوجعها كلمة، كان يكتم انفعالاته حين لا يعجبه شخص أو لا يستسيغ حديثاً، الا انه كان غالباً ما يثور لدى سماعه مصطلحاً ثقيلاً، يمسه او يمس قداسة الشعر.

كانت الصالونات التي تستضيفه، تزخر غالباً بأشخاص لا يعرفون القيمة الحقيقية للشعر والشاعر. كان في جلسات من هذا النوع قليل الكلام، يسمع ولكنه إن اضطر للتعليق فيعلق باقتضاب، يتناول العشاء، ويبدي اعجابه إذا كان الطعام مميزاً، ويهمس في أذن من اختاره ليجلس الى جواره، ان الطعام يقسم الى قسمين، لذيذ وصحي، أي أن الصحي هو من أجل ملء المعدة، أما الذي يمنعه الأطباء عنه لمضاعفاته الطبية فهو الألذ، إلا أنه يمكن أن يحول الصالون الى مسرح ثورة عاتية لو قال أحد الثقلاء مثلا :"الآن وبعد العشاء.. أفقعنا يا محمود قصيدة".

يثور لأنه ومنذ صغره، منذ الأبيات الاولى كان شديد الحرص على توفير حمايات معنوية للشعر والشاعر، كان يكره الفهم الساذج للشاعر على أنه يشبه مغني الربابة الذي يستدعى للأعراس ومناسبات الطهور والنجاح في الامتحانات، وكان يكره أكثر، الشعراء أو من يوصفون بذلك، حين يتقبلون معاملة كهذه، ، ويقبلون المنح والهبات سعداء شاكرين، شديدي الامتنان للمانح، ان الشعر أرقى من ذلك، والشاعر يجب أن يتوازى في شخصيته وسلوكه وايقاعه مع رقي الشعر الذي ينتجه.

حين طغت شهرته على كل مشاهير عصره، صار محمود مرغوباً في الصالونات، والمنتديات، وبلاط الحكام، وقصور الأثرياء والنافذين، لم يكن ليقاطع هذه الأماكن، خشية أن تلصق به صفة المعقد والكاره لهذا المستوى من الحياة وناسه، إلا أنه لم يكن شغوفاً بتلبية دعوات من هذا النوع، لقد دخل الكرملين في موسكو، واحتفي به في أكثر من قصر ملكي ورئاسي. حين دعي للكرملين وكنت سفيراً هناك، قال لي "صدقني لم آت من أجل الكرملين وغورباتشوف، وإنما من أجل ماركيز ورسول حمزاتوف". سأسهر معهما حتى الصباح، كانت السهرة الأثمن والأمتع في حياتي، كنت أشعر وأنا برفقته مع هؤلاء انني أجلس على قمة أعلى من قمة الكرملين والبيت الأبيض، إنها قمة السمو الثقافي والإبداعي على مستوى العالم والعصر.

إلا أن لنزوع محمود نحو البساطة، حكايات لا حدود لعددها ووقائعها، ودلالاتها، هي سمة حياته وسلوكه، لا اصطناع للبساطة، ولكن أحيانا كان لا بد من اصطناع تعقيد ما، حماية للشخصية والإيقاع. الا انه لم يكن متواضعاً، أو أنه لم يضطر يوماً الى اصطناع التواضع.

وهذه حكاية قيلت لي ولم أكن شاهداً عليها، ومعذرة لعدم ذكر الاسم لأن صاحب الحكاية مات، وقد لا يروق لذويه الاستشهاد به.

كان الداعي من صنف الناس الذين يسمون بمنطق الأرصدة "بالمليارديرات"، كان يسكن قصراً يعتبر واحداً من معالم أجمل مدينة في الكون "باريس" وكان محمود وهو أحد الرموز الثقافية في العاصمة الفرنسية، يسكن شقة لا تزيد مساحتها عن الخمسين متراً مربعاً، كانت تحتوي غرفة نوم واحدة، وركناً للجلوس والطعام، ومطبخاً صغيراً.

سعى الملياردير الى عشاء مع الشاعر الشهير، رحب محمود بالدعوة من قبيل الفضول والتأدب مع رجل سعى اليه. الا انه اشترط على الداعي ان لا يكثر من المدعّوين. وذكر ثلاث أو أربع أسماء يحب أن يقضي السهرة معهم، لبى الملياردير شروط الشاعر، وفي ركن من أركان قاعة الطعام التي تشبه تلك القاعات الامبراطورية التي تجهز لإطعام مئات المدعوين وضعت طاولة دائرية أنيقة ومقاعد أكثر أناقة، مع أدوات فضية شديدة اللمعان وأضواء صارخة وفي وقت ما خافتة، تعشى القوم في حضرة الشاعر والملياردير، وفتح نقاش ما بعد العشاء. الملياردير رغب في اظهار تعلقه بالشعر والثقافة مثل كل الذين لديهم مال كثير واطلاع انتقائي سطحي، ويحبون إثبات وجودهم خارج تأثير المال، أما الشاعر فقد ساقه فضوله لأن يناقش الملياردير على هذا النحو:

  • أعرف أنك من المليارديرات البارزين في العالم العربي وربما في العالم، وكما علمت فانك تجهد نفسك كثيراً لجني المال، فلماذا الإرهاق، وماذا ستفعل بالمليارات؟ أن باستطاعتك الحصول على كل مباهج الدنيا، بخمسة أو ستة ملايين أو عشرة أو عشرين، هل صحيح يا سيدي أن ثروتك كما قرأت تقدر بأربعة مليارات دولار؟

أجاب الملياردير:

  •  بل أكثر قليلاً.

  • اذاً لماذا توصل الليل بالنهار من أجل الزيادة؟

ضحك الملياردير، وقال:

  •  سأجيبك بسؤال: انك شاعر ذائع الصيت، واسع الشهرة في عالمنا العربي والعالم، وأسألك كم ديوان شعر أنتجت؟

 أجاب الشاعر: 

  • حتى الآن حوالي عشرة.

قال الملياردير: 

  • هل هذا يكفي كي تستمتع بالشهرة وتتوقف؟

قال الشاعر: 

  • طبعاً لا يكفي.

  • اذاً أنت تسعى لزيادة دواوينك وأنا أسعى لزيادة ملياراتي، وبذلك " ما حد أحسن من حد".

أعجب الشاعر بالجواب الذكي، بل اقتنع به، الا أن الملياردير أحب تفجير مفاجأة ظنها ستزلزل أركان الشاعر.

  • أستاذ محمود، عرفت أنك تسافر كثيراً لهذا قررت وضع طائرتي الخاصة بتصرفك، متى تحب السفر الى أي مكان في الدنيا، فما عليك الا ان تعلمني قبل يوم أو يومين، كي تكون الطائرة وطاقمها تحت تصرفك.

هنا، أتيحت للشاعر فرصة اظهار تفوقه على الملياردير وقال:

  •  أشكرك على هذه المبادرة الكريمة، وآسف، انني لا أستطيع قبولها.

دهش الملياردير، كيف لا تقبل مبادرة كهذه ان زعماء كبار يتمنون مثلها، بل أن بعضهم طلبها صراحة وسأل:

  • لماذا يا استاذ محمود؟ صدقني أنني أقدم لك طائرتي بكل الحب، وان كنت تشعر بالحرج خشية كلام الفضوليين فأعدك أن يظل الأمر سراً بيننا.

  • لا حرج ولا ما يحزنون، كل ما في الأمر، ان المتعة التي توفرها لي الطائرة التجارية أفضل بكثير من الطائرة الخاصة، فأنا مثلاً، أحب السفر، بدءاً من تجهيز حقيبتي وأوراقي في البيت، ثم ركوب السيارة والسفر الى "اورلي": أو "شارل ديجول"، صحبة صديق أو صديقة، نتبادل الطرائف والنميمة، وحين أصل المطار، وأنهي معاملة ركوب الطائرة والعبور من الجوازات الى السوق الحرة، أتنفس الصعداء اذ لا خطأ في جوازي يعيدني الى البيت، أتجول أمام واجهات المحال التجارية، أتفقد ربطات العنق المعروضة، وحين أصعد للطائرة واحتل مقعدي، أتمنى لو تجلس الى جانبي حسناء لبقة كي أمضي ساعات السفر في حديث شيق معها، وان لم تأتني هذه الحسناء، أدعو الله أن يأتي شخص معقول اتسلى معه، فهل يا سيدي توجد في طائرتك الخاصة كل هذه المزايا؟؟

افترق الشاعر و الملياردير، وقد خرج كل منهما بحصيلة من الحكايات والأفكار الغريبة، كان حواراً بين عالمين متباعدين، عالم الابداع الفكري والثقافي ولذة الحياة البسيطة، وعالم صناعة المال وما يفرض على أربابه من حياة بالغة التعقيد والتوتر.

وبمناسبة ذكر المال فلمحمود حكايات كثيرة وغريبة معه، لم يكن ليهتم به، الا بقدر ما يوفر له حياة لا يحتاج فيها الى أي شيء ، يكفيه مصاريف الشقة، والمواصلات، ووجبات العشاء مع الأصدقاء في المطاعم النظيفة الجيدة، وشراء الملابس الانيقة المميزة، كانت مرتباته الشهرية تكفي لتغطية هذا النوع من المصاريف ومع انه كان من الشعراء الأكثر مبيعاً في العالم العربي وحتى في بعض الدول الاوروبية، الا انه لم يكن ليدقق في الحسابات، فما ترسله دار النشر على ذمتها يوضع في حسابه، ولا يهمه الا انه حين يحتاج الى سحب مبلغ ما أن يوجد في الرصيد ما لا يعيد الشيك، كان يسحب ما يحتاج فوق المرتب الشهري، مع مبلغ منتظم يرسله الى بعض أقاربه، وحين كان يؤدي فعالية توفر دخلاً عاليا، كان يحرص على أن يتبرع بنصيبه لمؤسسة خيرية، ولقد جمع مبالغ طائلة في زمن الانتفاضة الأولى، وقدمها جميعاً لصندوق خصص لهذه الغاية، ولم ينفق على نفسه ولو دولاراً واحداً منها، كان يشعر بالاكتفاء، ويحرص على ان لا يكون يداً سفلى. كان يقبل الجوائز خصوصاً من المؤسسات المحترمة التي لا تمنح لقاء موقف أو سياسة خاصة، وكان يعتذر عن منح لم يكن يرى من مبرر منطقي لها، الا معادلة اليد العليا واليد السفلى.

كان شعوره بأن المال متاح ولا صعوبة تذكر في الحصول عليه سواء كمرتب شهري، أو كعائد من أنشطة معينة، جعله مطمئناً الى حاضره والى ما يتبقى من عمره، لم يؤرقه خوف على مستواه المعيشي ومظهره بالغ الاناقة، حتى انه لم يكن يعرف كم بلغ رصيده في البنك، لم يحاول الادخار، لم يفكر بتطوير المال المتاح له، لم يفكر بالاستثمار والاسهم والحصول على ربح من أي نوع، فمملكته في غنى عن كل ذلك، انها مملكة الابداع، عاش فيها ومشى الى قمتها وجلس على عرشها.