الخميس  28 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أكذوبة الانتخابات السورية/ بقلم: ناجح شاهين

2021-05-29 01:12:03 PM
أكذوبة الانتخابات السورية/ بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

كنت سأغض الطرف عن تنكب مشقة الكتابة عن الديمقراطية والانتخابات، فقد مللت هذه الأسطوانة المستهلكة منذ وقت طويل. ويبدو أن الإعلام العربي ومنظمات "المجتمع المدني" ومفكري اللبرلة الممولة قطرياً –يا للمفارقة- سوف ينجحون في خاتمة المطاف في تحويلي إلى واحد من عبدة الاستبداد والديكتاتورية من باب النكاية وأخذ الموقف الأكثر تطرفاً في مواجهة لعبة الاستغماية الديمقراطية التي تغدو حصان طروادة في يد الأجهزة الامبريالية مع أنها في الواقع ليست إلا كائناً خرافياً من طراز الغول والعنقاء وطائر الفينيق و "أبو رجل مسلوخة".

مراكز البحث والجامعات القطرية والإماراتية تعشق الديمقراطية بكل جوارحها.  لذلك تجدها تبشر دون كلل ولا ملل من مواقعها الديمقراطية المميزة في الدوحة ودبي وأبوظبي بالديمقراطية المتاحة في كل مكان من هذا العالم وخصوصاً في الخليج مع استثناء وحيد بالطبع هو سوريا. ولذلك صبت المراكز جام غضبها على الانتخابات في سوريا مبينة لنا عن طريق معرفتها العلمية العميقة بنظرية الديمقراطية وممارستها عيوب الأكذوبة السورية فيما يتصل بالانتخابات. والحق أن المواطن العربي محظوظ بوجود هذا السيل العظيم من البحث العلمي الذي يتحقق تحت رعاية ابتسام الكتيبي وعزمي بشارة وتميم ومحمد بن زايد الذين يبشرون المواطن العربي ويعلمونه أسرارهم الباتعة المتصلة بذهاب الناس إلى صندوق الانتخابات مرة كل أربع سنوات لكي يعطوا التفويض من جديد لواحد من أبناء القلة الثرية جداً والمنتمية لرأسمال المال فكراً وممارسة لكي يواصل برنامج نهب العالم الفقير في مستوى بلده ومستوى العالم على السواء.

بالطبع لا ينقص العلم القطري والإماراتي الحذر والحصافة الضروريان للتظاهر بمظهر العلماء الأكفياء لذلك فهم لا يترددون في إخبارنا أن الديمقراطية الغربية يتم تفريغها أحياناً من محتواها. لكن الانتخابات مع ذلك لا تؤثر سلبياً على الحقوق المكتسبة للناس. فهي على الأقل لا تضر، وهي الأقل سوء بين الأنظمة السياسية ...الخ.

بودي أن أذكر علماء الخليج ومن يتبعهم ويتبع نظريات الممول الأوروبي بأساسيات الممارسة الديمقراطية: أولاً، ميزة الانتخابات هي أنها لا تؤثر على امتيازات الطبقة البرجوازية وقدرتها على انتزاع الفائض وتحقيق الأرباح عن طريق نهب البسطاء، وليس العكس. ثانيا، الديمقراطية شكل نموذجي للسيطرة الطبقية الرأسمالية عندما يكون في مكنتها أن تحقق الهيمنة في حقل الصراع الأيديولوجي في نطاق "المجتمع المدني" بما يسمح لها بتحقيق النهب الطبقي المقصود دون أن تستهلك شيئاً من الفائض على أجهزة القمع المتاحة للدولة. من هنا كان المفكر "القطري" عزمي بشارة قد لاحظ قبل عقد ونصف من الزمان عندما وقع إعصار كاترينا أن جهاز الدولة في الولايات المتحدة ضعيف وقوة الدولة إنما توجد وتظهر في الخارج  (في الحروب الاستعمارية)، ولذلك وقفت الدولة عاجزة أمام تداعيات الكارثة الناجمة عن الإعصار. لكن بشارة لا يخبرنا شيئاً عن السر في ضعف جهاز الدولة في الداخل، وها نحن نتبرع ونخبره أن ذلك ناجم عن الهيمنة المطلقة على عقول الناس بحيث لا يعود هناك حاجة إلى قمعهم، فالواقع أن سي.أن.أن وفوكس وهارفارد وبرنستون والتايمز تقوم بالواجب بنجاح كامل. وأما إذا وقع لا سمح الله تهديد لهذه الهيمنة، فسوف تقوم الأجهزة القمعية بدورها على أكمل وجه مثلما يتخيل جاك لندن في "العقب الحديدية". ولنتذكر كم كان التهديد الشيوعي ضعيفاً في خمسينيات القرن الماضي، وكم كان القمع المخابراتي هائلاً في مواجهته! حسناً لا بد أن بشارة يعرف بلاداً ديمقراطية أفضل من أمريكا، ولكن يحسن بنا أن نذكره بالبلد التي كان عضواً في برلمانها: "إسرائيل" وهي بلد ديمقراطي بالطبع، بل وديمقراطي جداً.

يخبرنا بشارة وتلاميذه في الأكاديميا القطرية والفلسطينية (من جماعة معهد مواطن لنشر الديمقراطية/جامعة بيرزيت) أن إجراء الانتخابات دورياً يمنع نشوء الاستبداد. ولكن هذا لسوء الحظ غير صحيح على الإطلاق. وما نظن هؤلاء يجهلون أن ألمانيا بعظمتها قد انتقلت إلى استبداد هائل يقوده حزب هتلر القومي المتعصب عندما غدا تهديد الرأسمالية أمراً واقعاً يجسده الشر الشيوعي في مطلع الثلاثينيات، وأود هنا أن أذكر بأن هزيمة هتلر في حرب ضخمة اجتاحت أوروبا هو الذي أعاد ألمانيا المحتلة إلى حظيرة الديمقراطية. بل لعل من المفيد أن أذكر علماء الديمقراطية في الخليج وأشباحهم الباهتة في رام الله أن ديمقراطية تشيلي قد قتلت في العام 1973 على يد الديمقراطية الأهم في العالم (الولايات المتحدة) وعادت تشيلي ليس إلى الاستبداد فحسب، بل إلى حكم دموي فاسد ومريع قاده جنرال صديق للولايات المتحدة اسمه بينوشيه. الأمثلة كثيرة بالطبع، لكن قد لا نحتاج أكثر مما ذكرنا من أجل إنعاش الذاكرة.

لا بد أن الديمقراطية تحتاج إلى بيئة حاضنة وداعمة من باب استقلال القضاء ومحايدة جهاز الشرطة والجيش...الخ وهذا ما يعني بداهة أن إجراء الديمقراطية في ظل الحكم الديكتاتوري مهزلة وليس انتخابات. لذلك لم يتردد كبار رعاة الديمقراطية وحماتها في العالم الحر من قبيل بلينكن ونظرائه في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا في إصدار بيان يندد سلفاً بالأسد وانتخاباته. ولا بد هنا من التنويه بتنديدهم قبل أيام قليلة بالعمليات الإرهابية الغزية التي استهدفت إسرائيل درة الديمقراطية اليتيمة في الشرق الأوسط.

بعض من الليبراليين والإخوان المسلمين واليساريين المدعومين من أوروبا قد يتوقعون مني أن أقول إن هناك ديمقراطية في سوريا. وهكذا سينبرون بالاستعانة بالعلم الخليجي إلى توضيح جهلي وإثبات أن سورية دولة كاذبة لا تحقق شروط الانتخابات النزيهة ...الخ.

كلا لا يوجد ديمقراطية في أي مكان في العالم إذا كان المقصود بذلك أن يصل إلى الحكم قائد يمثل مصالح الأغلبية. يوجد نخب سياسية/اقتصادية تحكم من أجل مصلحتها بالاعتماد على معادلة الهيمنة والقمع: كلما تحققت الهيمنة على عقول الناس عن طريق وسائل التضليل المختلفة، كما قلت الحاجة إلى جهاز الدولة الإكراهي، والعكس بالعكس.

أما فيما يخص سورية فأود أن أبين بعد أن أوجزت القول في "حزيرة الديمقراطية"، إن ما يحدث فيها صراع لا علاقة له بالديمقراطية، ولا بالإيمان والكفر، وإنما بمعركة فاصلة محلية وإقليمية وكونية فحواها أن تدمر سوريا وإيران والمقاومة اللبنانية البطلة وتهزم القوى العالمية الصاعدة (روسيا والصين والبرازيل..الخ)  لمصلحة المشروع الأمريكي-الإسرائيلي الكوني والإقليمي وعملائه في المنطقة العربية.

بشار الأسد والحزب الحاكم في سورية يمثلان إرادة الشعب دون شك. ولو لم يكن كذلك لسقطا شر سقطة في الهجمة الضخمة التي تعرضت لها سوريا منذ سنوات عشر. لا يستطيع أي نظام أن يعيش والأغلبية ضده، حتى لو كان بقوة نظام شاه إيران الذي كان شرطي المنطقة الأكبر، وبعد الشاه رأينا أمثلة كثيرة من أبرزها حسني مبارك وزين الدين بن علي وعمر البشير الذين سقطوا بدون تدخل قوى أجنبية كبيرة أو صغيرة على نحو مباشر.

أما في سورية فقد هجم الأعداء من ساحات الجيران دون استثناء: من تركيا، والأردن، ولبنان، والعراق، و"إسرائيل" ليدمروا سورية ويذبحوها من الوريد إلى الوريد رافعين شعار إسقاط الدكتاتور الأسد مستخدمين البطش والقوة وآليات التجسس وشراء الذمم، لكن دون جدوى.

لقد صمدت سورية باستبسال الجنود السوريين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لاستقلال وطنهم، وصمدت سورية بالتفاف الغالبية العظمى من الشعب السوري إلى جانب قيادته ودولته وجيشه، واندحر المشروع الاستعماري الكوني إلى حد كبير.

أظن أن ما حصل في سورية على امتداد العقد الأخير هو أكبر اختبار لرغبة الجماهير في بقاء هذا الشكل من الحكم. وليس يعنيني هنا الكلام حول انتخابات "نزيهة" و "فالتة" تستخدم فيها خيول طروادة على الطريقة التي يحلمون باستخدامها في غزة بغرض اكتشاف مواقع المقاومين والإجهاز عليهم.

بالنسبة لي وفي هذه المرحلة الحبلى بالمقاومة أظن أن "أسطورة الديمقراطية" تمارس على أفضل نحو ممكن في سورية بالذات، وليس في بلاد الأنكل سام الوحشية ولا في إمارات النفط المنقرضة التي تقبع في الفضاء وراء الفراغ وبعيداً عن الكائنات الإنسانية وطموحاتها الحقة.