السبت  20 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

24 ساعة في بيتا/ بقلم: أسامة منصور

2021-07-03 01:05:10 PM
24 ساعة في بيتا/ بقلم: أسامة منصور
أسامة منصور (أبو عرب)

وكأنها لحظات فقط، هذا المجد العظيم الذي يعيشه البيتاويين، هذه اللوحة العميقة الشديدة الجمال والروعة والممتدة في جذور التاريخ منذ قرون .. المُتّقِدة خلال حقب متتالية في كل ثورة وانتفاضة والمتقدة بشكل خاص منذ (54) يوماً بسبب هذه النازية العنصرية الإجراميّة الإحتلالية التي تُسَوّغ لمستعمِرٍ بخس وجبان وسافل حق الإستيلاء على جبل في مقدمة لمخطط استعماري رهيب ومخيف تحت حماية عصابات القتل والإجرام الإحتلالية، هذه الـ(24) ساعة مرت عليْ كأنها لحظات.

كانت الشمس تميل للغرب ونحن ندخل بيتا عبر الطرق الترابية، حيث قمنا بعمل جولات على كافة محاور الإشتباك مع العدو، واستقر بنا الحال في منطقة ابو جبارة، ومع حلول الظلام كان الفدائيّون البيتاويّون قد استعدّوا لصعق الإحتلال بهجماتهم الرشيقة، تستطيع تمييز الثقة في عيونهم بالنصر الحقيقي فثباتهم انتصار .. هجماتهم انتصار .. الخوف بعيون أعدائهم انتصار وهذا الإستنفار الإحتلالي ضد الفتية العزل الا من ارادتهم انتصار،  فإذا امتطيت صهوة مطلّة تستطيع ان تراقب ساحة المعركة التي تمتد وتطول في مدى السفوح البيتاوية الشامخة كما البيتاوي العظيم، ينفدون من أكثر من فجوة يصنعونها بعرقهم وتعبهم وتصميمهم وبحماية خلفية حقيقية، فالظهر مسنود والهدف منشود والنصر موعود والعدو مردود .. ينفدون يقفزون كالفهود من هنا وهناك وما بينها وما قبلها وما بعدها مدججين بالإطارات والحجارة والتنفيذ بنقطة محددة حيث يتم إشغال العدو بإشعال الإطارات التي يعمي دخانها عيون المحتل الغاصب كمقدمة للإنقضاض عليه بالحجارة من نقاط أخرى، حيوية عظيمة .. تضحيات جسيمة .. وأثمان أليمة وكلها "لعيون الجبل" كجزء من الوطن المحتل.

تندمج بعفوية سريعة بالحالة الكفاحية القائمة وتجد نفسك بيتاوي عريق رغم كونك جمّالي قادم من جنين، فالكل هناك فلسطيني والكل يعمل لأجل فلسطين والكل يحمل العلم الفلسطيني فقط، حيث ذابت الحزبية والفصائلية على أعتاب بيتا الفلسطينية، ورغم الأذى الذي تسببه قنابل الغاز المسيّل للدموع، لكنك قادر على متابعة ما تقوم به مستمداً القوة من النشامىٰ خاصة بعد اتباعك لتعليمات محددة بخصوص هذا الغاز تجعل تأثيره صفراً على الجهاز التنفسي ويبقى التأثير على العينين، لكن ذلك ينتهي لديك نشوةً بالموكب المهيب لمسيرة المشاعل التي تساهم بدب الرعب في نفوس المحتلين وتجعلهم يفقدون صوابهم خاصة مع انطلاق صوت البوق الذي ابتدعه مناضلي بيتا والذي يخلق صوته حالة من التوتر والهستيريا لدى مغتصبي الجبل وحرّاسهم الأغبياء، يترافق ذلك مع إشعال مزيد من الإطارات ومساندة من أصحاب المقاليع، فتكتمل لديك الصورة للهجوم التكتيكي المنظم الذي يديره شباب بيتا العنيدين مما يدفع قاتلي الأطفال لتكثيف قنابل الغاز واستهداف الشباب الثائر برصاصه الحي لغايات القتل، ومع اقتراب أذان الفجر تنخفض حدة المواجهات ويبقى المحتل الغاصب تحت المراقبة ويبدأ العظماء بالإستعداد ليوم جديد.

كل شيء يُبقيك مستيقظاً، لكنك تغفو وأنت تُدير شريط الساعات الأخيرة الماضية، وتستحضر شريط الساعات القادمة، وتبدأ جولة الصباح حيث جبل العرمة وعيون الماء وشوارع البلدة التي يزيد عدد سكانها على (15000)نسمة ويجذبك كل شيء حتى "طابون ستّي وستّك"، بيتا أُنموذجاً يندرج على كل بلدة وقرية ومدينة وخربة ومضارب، تاريخ عميق وعشق عظيم للثورة، ثم إن تأدية الصلاة في منطقة "الهوتي" واجب وطني عظيم.

قبل أذان الظهر في جمعة الـ(15) ذو القعدة من العام (1442) هجري الموافق (25) حزيران (2021)، قام الإحتلال بإطلاق قنابل الغاز على الذين تجمّعوا للصلاة، وأرسل طائرة مُسيّرة لإلقاء قنابل الغاز على رؤوس المصلّين، لكن ذلك لم يمنع الشيخ من إتمام خطبته، ولم يغير من طبيعة الإحتلال المتوحشة العنصرية التي تدفعه حتى للإعتداء على المصلّين ورغم ذلك يستمر المصلّين بإتمام صلاتهم ثم تبدأ المواجهات.

الجرأة في كلمة حق وموقف حق كانت حاضرة بكل تفاصيلها مرة أخرى على صعيد مشاهداتي ومرة مليون على صعيد بيتا، الفتية العزّل يقحمون ساحات الوغى بصدورهم العارية ويهتفون بعظمة وكبرياء:-

- الله أكبر الله أكبر

- بيتاوي صرّح تصريح .. عن هالجبل ما بطيح

- من العرمة لصبيح عن هالجبل ما بنزيح

- وحدة وحدة وطنية

- حط الحجر في المقلاع .. هذا الجبل لا ما ضاع

- حط النار قبال النار .. إحنا رجال أبو عمار

- حط النار قبال النار .. يرحم روحك يا نزار

- حط السيف قبال السيف .. إحنا رجال محمد ضيف

ولا حضور سوى لعلم فلسطين المخضّب بدماء الشهداء، وهناك صف يرمي الحجارة بالمقلاع، وهناك شباب يتسلّلون ويلقون الحجارة، والفتية الذين آمنوا بربهم وبحقهم بالجبل والوطن يتسلّلون من نقطة أخرى(اليتماوي)، ويباغتون المجرمين ويشعلون النار في الإطارات مما يدفع الإحتلال للتوجه لنقطة "اليتماوي" فيتسلل آخرون للشارع ويحطّمون سيارات للمستوطنين فيجن جنون الإحتلال ويمعن بإطلاق الرصاص الحي تماماً كما جن جنونه قبل أيّام عندما تسلل بطل بيتاوي للبؤرة الإستعماريّة وقام بتنزيل علم الإحتلال وأخذه وحرقه، وهذا هو حال العظمة والعظماء.

خليّة نحل تماماً، نشامى ينقلون الإطارات ويضعونها في مواقع من اختيارهم بحسب نظرتهم الإستراتيجية (في بيتا قام الإحتلال باعتقال عربات إطارات وقام بجرّها وسرقتها كما قام بسرقة إطارات من محلات البناشر كاحتلال وضيع)، نشامى يتسلّلون ويلقون الحجارة، نشامى يصطفون بشكل منظم ويستخدمون المقلاع، نشامى يراقبون قنابل الغاز ويعيدونها لهم، نشامى يُراقبون ويحكون لزملائهم عن مواقع المجرمين، نشامى ينقلون المياه، نشميات يطبخن ويرسلن الطعام، ونشميات ونشامى ينقلون الحدث للعالم، وبالضبط هذا هو الحال في بيتا.

في ظل هذه الملحمة التاريخية يتقدّم الشهداء علينا جميعاً ويرتقون أعظم منّا جميعاً وأقل من الله، فمنذ اندلاع المواجهات على جبل صبيح ارتقى الشـ هـ داء العظماء وكيل نيابة سلفيت الشـ هـ يد الدكتور عيسى برهم، الشهيد زكريا حمايل، الشهيد محمد حمايل، الشهيد أحمد بني شمسة، وكان قد ارتقى في عام 2019 على جبل العرمة الشـ هـ يد محمد حمايل والشهيد إسلام دويكات، هذه المنارات التي تضيء لنا الطريق إلى النصر المبين، علماً بأنه منذ اندلاع المواجهات على جبل صبيح أُصيب أكثر من ألفيْ فلسطيني وتم اختطاف (7) شبان، لكن المد الفلسطيني ما زال بأوج عنفوانه وأبهى صوره ويظلله الشـ هـ داء رحمة الله عليهم.

بدأت الشمس تميل غرباً، وكانت المواجهات تشتد، وكان علي أن أقوم بجولة وداع في خط الإشتباك الأول .. أن أحاول ملامسة هذا الشرف العظيم المقدّس النابع من القابعين بعزة وكبرياء على خط النار، أن أقول لهم "الله يعطيكم العافية يا نشامى، الله يقويكم، الله ينصركم، وما رميت إذ رميت لكن الله رمىٰ"، وخلال ذلك ستميز الوجوه والسواعد السمراء، وتستطيع معرفة أن حالة الإرهاق التي هم فيها تزيدهم قوة وصلابة وتضيف فيهم قدرة على التحدي، وعندما أدرت ظهري تاركاً قلبي وروحي وعقلي هناك، وعندما هممت بالمغادرة مرّ بي شبلين لا يتجاوز كل واحدٍ فيهم (13) عاماً، يحمل أحدهم قنينة ماء ويحمل الآخر اثنتين، وكان يقول حامل الاثنتين "خُذ قنية المَيْ هاي" فرد صديقه "معاي قنية، بديش" فصعقت برده حيث قال "خذها يا زلمة واذا استشهدت رُشها ع قبري"، فغادرت دامِعاً مسرعاً.