الثلاثاء  19 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تيسير.. لا زال رحيلك يعذبني| بقلم: أمل غضبان عاروري

2021-07-26 05:42:33 PM
تيسير.. لا زال رحيلك يعذبني| بقلم: أمل غضبان عاروري
أمل غضبان عاروري

ها هو 26 تموز/يوليو مرة أخرى، وها هي الذكرى الخامسة لرحيلك تيسير. خمسة أعوام! قالوا عند وفاتك إن وجع الموت والفراق يبدأ كبيراً ويصغر مع الأيام. لا أدري متى أو كيف سيصغر وأنت لا تفارقني، ويعذبني غيابك. أفتقد فيك الصديق والرفيق والحبيب. وكأن غيابك لا يكفي.. فجائحة كورونا اللعينة نشرت الموت حولي بطريقة مرعبة أفقدتني القدرة حتى على تقديم التعازي في بعض الأحيان. انضم إلى عالمك العديد من رفيقاتنا ورفاقنا منذ رحلت، قوانين العزل والحماية جعلت الحياة والوحدة قاسية لحد لا يطاق. وأحوال البلد والناس تزداد صعوبة، والحياة تزداد تعقيدا، وحلمنا يبتعد في ظل نظام فلسطيني فاسد يتوزع رجاله بولائهم لمصالحهم بين واشنطن وتل أبيب ومكة، ولأجل مصالحهم ورفاههم يسخرون التنسيق الأمني لما لا يخدم الإنسان ولا الوطن. الاستيطان مستمر في التوغل، ويزداد حصارنا، والأغلبية تحس بالاختناق، نتوقع أن  نمنع من التنفس أيضا إذا استمر مشهدنا على ما هو عليه، لكن هنالك بصيصا من الأمل في تصاعد حراكات شابة هنا وهناك، وإن كانت لا تزال عفوية في غالب الأحيان، تطفو كرد فعل لحدث جلل. بإمكانها تطوير رؤيتها وأدائها وتوجيه بوصلتها إن لم تقم سلطتنا باغتيالها.

قبل شهر قتل نزار بنات على أيدي أبناء جلدته بوحشية لم نشهدها، ولم تكن هنالك أية محاولة لتغطية الحدث، رسالة واضحة معنونة لكل الساخطات/ين على من ينعتون أنفسهم بالقيادة. أب لخمسة أطفال آخرهم رضيعة بعمر ثلاثة أشهر لن تعرف أباها ولن تستخدم هذا النداء. لا أعرف وأنت المطلع والمتابع إن كنت عرفت نزار بنات قبل رحيلك. كان من المعارضين لنهج أوسلو وما أفرزه من طبقة انتهازية ومافيات (ولكن كما انفصام العديد منا، كان مناصراً للنظام البعثي المجرم). كان سلاحه الكلمة. وخلال الأعوام الماضية استقطب عددا كبيرا من المتابعات/ين، فارتعبوا من لسانه فقتلوه بعدما فشلوا مرارا بإسكاته من خلال الاعتقالات والمحاكم. اقتحم 28 من عناصر الأمن الفلسطينية وبتنسيق مع الاحتلال بيتاً حسبه آمناً في يطا، وهو نائم. هشموه وقتلوه ولم يعتذر أي من المسؤولين. 

قامت البلد ولم تقعد. صبايا وشباب وختيارية وقدامى المناضلات/ين، رفعوا صوتهم ضد الظلم والقتل والفساد المُمَأسس. طبعا إلغاء الانتخابات التشريعية (والتي كانت ستكون الأولى منذ خمسة عشر عاما)، مع نهاية الشتاء، تم دفن وهم إمكانية تغيير معادلة أولوية مصالح ”القيادة“ لصالح مصلحة الشعب، وفي الربيع جاءت التحركات التي بتنا نصفها بـ ”انتفاضة الكرامة والأمل“ لتدق آخر مسمار في تابوت أوسلو المحنط منذ ولادته كما كُنتَ تُردد، وهكذا كان قتل نزار بنات وهو مرشح للمجلس التشريعي القشة التي قصمت ظهر البعير. كشفت المواجهات للعلن مدى التشققات داخل فتح وخراب كل من يدعون أنهم أحزاب معارضة، وإصرار المتنفعين على أن فتح هي السلطة والسلطة هي فتح ولا ثالث لهما في الوطن. لم يستقل أي مسؤول والكل نفى عن نفسه تهمة المسؤولية عن الاغتيال، لم يقدموا واجب العزاء لعائلة نزار. ياسر عرفات كان أذكى من أن يفوت فرصة تقديم العزاء للعائلة واحتضان أبنائها لدرء الشبهات عن نفسه ومن ثم تقديم كبش فداء سريعا. ولكنه عصر تغوّل العسكرة، وانتهاك الحريات والعنف ضد كل صوت معارض وضد الصحافة وأي جهة تسعى لتوفر حياة كريمة لغير قبيلة السلطة.

حُرّكت كل الأجهزة الأمنية ضد المظاهرات، سنت سيوفها وعصيها، ضرب وسحل واعتقالات. ألبست عناصر القوى الأمنية اللباس المدني وأنزلت للشوارع باسم شبيبة فتح لتسحل وتعتقل. لم تسلم الصحافة، اعتبرها النظام العدو الأول رغم أنها صحافة  ”حنينة“. ضربت الصحافيات والصحافيين، اعتقلوا وصودرت هواتف الصبايا واستبيحت خصوصياتهن وحياتهن بعمل قذر هو استمرارية لنهج الإسقاط الصهيوني، والذي وضعه الهباش وحول من خلاله قطاعات كاملة من شعبنا للفكر الوهابي والداعشي (هل تذكر كل عملنا في موضوع تصحيح المناهج الكارثية؟ ما صار شيء طبعا، وزير يجي وزير يروح والخراب خراب).

شتت إعدام نزار وما تبعه الأنظار عن معركة القدس والدفاع عن حي الشيخ جراح وسلوان والأقصى ومثيلاتها في بيتا والأغوار وفي شتى أنحاء الداخل المحتل وعلى الحدود، تلك الحرائق التي أشعلها النتن ياهو قبل نزعه عن العرش، وهكذا خدمت السلطة مجددا غاية المحتل. لأول مرة منذ أحداث أكتوبر 2000 تحركت جماهير فلسطينية غفيرة في اللد والرملة وعكا وحيفا وأم الفحم وغيرها ضد القهر والتمييز والتهميش في دفاعها عن القدس، إعادة الالتحام واللحمة للشعب الفلسطيني. جاء حراكهن/م الجماهيري عفويا، منظما وعنيفاً بحجم ما نعيشه منذ قرن من عنف وظلم، هدم للبيوت ومحاولات الاقتلاع والتمييز الممنهج، أعلنوها من "قلب إسرائيل"... هنا فلسطين!

حماس هددت وقصفت ووصل قصفها مبنى الكنيست في القدس. إسرائيل شنت الحرب على غزة مجددا، جرحى وموتى، وللمرة الألف شرد الناس من بيوتهن/م، فقدوا كل ما يملكون، سكنوا المدارس. ورجعنا نحكي عن إعادة إعمار غزة. شد من هون وشد من هون. رهن حليب الأطفال وعلاج المرضى بالباطون والحديد، وتدخلات مصر وقطر والإمارات المشبوهة والمساعدات الأكثر شبهة والقادم أعظم. 

وهكذا، حرفت البوصلة عن القدس والشيخ جراح وسلوان وجبل صبيح والاستيطان، اعتقل الآلاف منذ أيار من أجل وأد ”انتفاضة الكرامة والأمل“ بشقيها في الضفة والداخل، عملتين بوجه واحد أو وجه لعملتين. سمها ما شئت. وهنالك مؤشرات على المثل في غزة. نحن لم نفقد الأمل بوطننا، ولكننا سائرون نحو الدولة الواحدة ثنائية القومية، ربما خلال عقد أو اثنين من الزمن. الاستيطان نهش الأرض والفساد لم يترك عظمة واحدة في حلم الدولة فلسطينية، ونحن، لا تقلق، نحن صامدات/ون على الزيت والزعتر وحبة الزيتون، ونحلم بالبحر وتفاح الجولان وبالوطن الأكبر.

تخيّل أنني في لحظات أحسدك على منامك الأخير وراحتك الأبدية؟ فالخراب كبير جدا وجدا وجدا. كل يوم يمر تكبر فيه خسارتنا الوطنية والمجتمعية. إحباط وإهانات وألم ولا حل يلوح بالأفق، نتعلق بخيط الحراكات الشابة وعلى أمل أن تتطور رؤاها وبوصلتها وأدائها، وأن لا تنجح الأنظمة باغتيالها.  وأن تتحول إلى قوة للتغيير وإنصاف بنات وأبناء شعبنا الذي أوجع قهرا وذلا ويردد ”لا نريد لا نريد“… لطالما كرهت أنت النشيد المسخ الذي جاءت به جماعة أوسلو، وها هو نشيد ”موطني“ يعود ليكون نشيدنا الجامع من النهر إلى البحر…

لا شيء يعطيني القدرة على التحمل والأمل سوى بناتنا وأبناؤنا والأحفاد الجليل وأزاد وتيسير الصغير ومينا. هن/م الأجمل على وجه الأرض، ودائما تدوي صرخة بداخلي: أين أنت جدو تيسير؟ ما هذا الحرمان الذي أصابك وأحفادك؟ الجليل وأزاد بدأوا لعبهم بحجارة الشطرنج. من يعلمهم وأنت ملك الشطرنج. أفتقدك كل يوم في كل زاوية وتفصيلة نقاش كل خبر، وفي بهجة كل نبتة في حديقتنا… هل تذكر أحاديثنا وأحلامنا بأن نكبر معاً؟..