الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مواطَنـة متغيّـرة المفاهيم... ومستمرّة| بقلم: عبد الإله بلقزيز

2023-02-23 02:23:47 PM
مواطَنـة متغيّـرة المفاهيم... ومستمرّة| بقلم: عبد الإله بلقزيز
عبد الإله بلقزيز

نُظِر إلى المواطَنة - في معظم أطوار الفلسفة السّياسيّة الحديثة - بما هي منظومةُ حقوقٍ وحريّات تشرِّعها الدّولة والقانون (= مونتسكيو)، وتعـترف بها الإرادة العامّة المجسَّـدة في قوانين (= جان جاك روسو). ليس الفردُ والحقُّ المدنيّ والحريّة فوق الدّولة، بل هي من منتوجاتها السّياسيّة وتحت سلطانها السّياديّ (هيغل).

وحده جون لوك، في القرن السّابع عشر وأوائـل الثّامن عشر، ألحَّ - من دون سائر فلاسفة السّياسة في عصره - على أولويّة المواطن والحريّة والحقوق، فلم يَـرَ إلى الدّولة إلاّ بوصفها مجعولةً لحماية تلك الحقوق، وأوّلُها الحريّة والحقّ في المُلْكيّة. مع ذلك، لم يخرج جون لوك عن نطاق الپاراديغم (= الپارادايم) الفكريّ الحاكم لفلسفة العقد الاجتماعيّ: پاراديغم الدّولة الوطنيّة؛ وآيُ ذلك استلهام الدّستور الأمريكيّ لكثيرٍ من أفكاره. لن يبدأ الانتقال نحو پاراديغم جديد في الفلسفة السّياسيّة - بعد الپاراديغم الهيغليّ - إلاّ في القرن التّاسع عشر، مع بداية تظهير النّموذج السّياسيّ الأنغلوساكسونيّ في الدّولة والمواطنة، بوصفه مقابلاً سياسيّاً للنّموذج الفرنسيّ والألمانيّ آنها: أكان في الهندسة النّظريّة للنّموذج أو في الاشتغال السّياسيّ والمؤسّسيّ.

كان الفرنسيّ ألكسي دو توكڤيل أوّلَ من عرَّف بالنّموذج السّياسيّ الأمريكيّ في كتابٍ له، حمل عـنوان: في الدّيمقراطيّة في أمريكـا. وهو كـتبه بين العامـين 1835 و1840، وما يزال مرجعيّاً - حتّى الآن - لمعرفة هندسة النّظام السّياسيّ الأمريكيّ. ومع أنّه أشاد بمكانة مبدأ السّيادة في الدّستور الأمريكيّ وقوانين النّظام، بما هو مبدأ مصرَّح به لا مُضْمَر، مثلما أشاد بحاكميّة القوانين في النّظام الأمريكيّ، إلاّ أنّه في كتابه: النّظام القديم والثّورة - الذي ينتقد فيه بشدّة الثّورة الفرنسيّة والنّظام السّياسيّ الذي تَوَلّد منها - يؤاخذ ما سمّاهُ بنظام «الاستبداد الدّيمقراطيّ» في فرنسا الثّورة على ارتداده عن الثّورة إلى النّظام القديم وسلْبِه المواطنين حرّياتهم، مُنْحياً باللاّئمة على اعتماد الثّورة مبدأ المساواة بدلاً من مبدأ الحريّة. هكذا ينتهي توكڤـيل إلى القول إنّ المساواة لا تبني مواطنة، وإنّما «تضع النّاس جنباً إلى جنب من دون رابطٍ مشترك»، وبذلك تنتهي بهم إلى الانعزال. وعلى ذلك يكون توكڤيل قد غلَّب مبدأ الحقوق على مبدأ السّيادة والدّولة معيداً، بذلك، إحياء تقليد جون لوك، ومُشْرِعاً الأبواب أمام جيلٍ من مفكّري السّياسة اللّيبراليّين جديدٍ، وأمام پاراديغم جديد في النّظر إلى المواطَنة من قناة الحقوق، حصراً، ومن مدخل تغليب الفرد على المجتمع والدّولة ثمّ التّأسيس، من ثمّة، لِـ  الفـردانيّة؛ وتلك مسألة أخرى.

يُعدّ الفيلسوف الإنڱليزيّ جون ستيوارت مِل أوّل مَن أرسى مداميك الانقلاب في النّظريّة السّياسيّة، مدشّناً پاراديغماً جديداً فيها وفي النّظر إلى مسألة المواطنة. تدور فلسفتُه السّياسيّة على الفرد وحريّته، وهنا لا حدود، عنده، لحريّة المواطن؛ لا الدّولة ولا المجتمع ولا السّيادة، ولا حتّى الدّيمقراطيّة التي هي، في عُرْفه، ليست أكثر من «طغيان الغالبيّة»؛ إذِ الفردُ، عنده، سيّد نفسه ولا سيادة لأحدٍ عليه، ولا يملك أحدٌ أن يفرض عليه رأياً حتّى وإنْ كان وحدَهُ ينتحل لنفسه موقفاً يخالف به الجميع في ما ذهبوا إليه أو تواضعوا عليه من آراء. ليس من معنًى لسيادة الدّولة أو لمرجعيّة الإرادة العامّة، عند جون ستيوارت مِل؛ فهذه جميعها تنتصب عائقاً أمام حريّة المواطن وحقوقه التي هي الأساس والمبدأ في فلسفته. هكذا ينتصر الفيلسوف الإنڱليزي لفكرة الحقّ على حساب فكرة السّيادة الشّعبيّة (وهي المبدأ الأساس المعتَمَد في النّظام السّياسيّ الفرنسيّ والأنظمة الجمهوريّة إجمالاً)؛ وللفرد على حساب الدّولة والمجتمع.

مع فلسفة جون ستيوارت مِل السّياسيّة، وانطلاقاً منها، سيحْدُث تبدُّلٌ هائل في مفاهيم السّياسة، في امتداد انصرام پاراديغم وميلاد آخر في الفلسفة السّياسيّة في ذلك العهد (= منتصف القرن التّاسع عشر). وهكذا لم تَعُـدِ المواطَنة ما كانَتْهُ إلى عهدٍ قريب؛ أي علاقة سياسيّة تعبّر عن جدليّة الحقوق والسّيادة في تكاملهما؛ عن تَوافُق إرادة الفرد وإرادة الشّعب (أو الإرادة العامّة بلغة جان جاك روسو ولغة الثّورة الفرنسيّة)، بل سيؤول أمرُها إلى مجرَّدِ حقٍّ مجرَّدٍ لا سبيل لأحدٍ إلى وضْع أيِّ قيْدٍ عليه ينال منه باسم أيّ مبدإ من المبادئ.

سيدشّن هذا المنعطف تاريخاً جديداً لمفهوم المواطنة؛ في الفكر السّياسيّ والقانونيّ، ابتداءً، ولكن أيضاً - وأساساً - في التّجارب السّياسيّة المعاصرة للدّول والمجتمعات، الأمر الذي ستتولّد معه مشكلات اجتماعيّة وسياسيّة فيها لا حصر لها. غير أنّ الذي لم يكن موْضع شكٍّ هو أنّ منظومة المواطنة - على نحو ما استقرّت عليه في كيان الدّولة الوطنيّة الحديثة - ستستمرّ منظومةً مرجعيّةً في كلّ الهندسات السّياسيّة للمجال العامّ في الدّول الحديثة، على الرّغم ممّا اعتورها من أزْمات وهزّاتٍ وأعطاب. بل، أكثر من هذا، سيقع التّوسُّع في تصحيح مثالبها وثغراتها، واستدراك منقوصاتها وتوْسعة نطاق مكتسباتها بشكلٍ كبير. وآيُ ذلك ما تَحَقّق، منذ نهايات القرن التّاسع عشر، من مكتسباتٍ كبرى على هذا الصّعيد المومأ إليه (= التّصحيح والتّوسعة)؛ وفي جملتها المكتسبات الكبرى الثّـلاثة التي تَعزّزت بها منظومة المواطنة: توسيع التّمثيل السّياسيّ بحيث شمِل فئاتٍ اجتماعيّة جديدة كانت مستثناةً منه؛ تعزيز حقوق النّساء؛ ثمّ إقرار المساواة القانونيّة وإلغاء التّمييز...