صباح الثلاثاء الماضي دخل وقف إطلاق النار بين إيران ودولة الاحتلال حيز التنفيذ بعد اثني عشر يوما من الضربات المتبادلة التي أدخلت المنطقة في مزيد من التوتر ومن وضوح تجليات طبيعة العلاقة مع دولة مصطنعة إنما أنشئت ليظل الصراع في منطقتنا قائما إلى ما لا نهاية. ليست الكلمات المعلنة عن اتفاق وقف النار، إلا إعلانا آخر عن إعادة تذخير النار بمزيد من الدماء، التي ما إن تنطفئ في مكان، حتى تبدأ بالاشتعال في منطقة أخرى على امتداد شرق أوسط تصاغ له المفردات المستقبلية كي يعرف نفسه جديدا، مسالما، مطبعا، خاضعا.
وفي هذه المعركة، التي أثبت فيها عدو المنطقة أنه على مقدرة استخباراتية عالية، والتي استجمع الكثيرون قوة اندهاشهم من دقتها وأعادوا تصديرها لنا على شكل حداثة علمية فارقة في تصنيف الأمم والشعوب وقوتها، تظل قوى "العالم المتمدن" غارقة في خلل بنيوي لم تستطع بعد أن تضع يدها عليه. فهي، وعلى الرغم من امتلاكها الأدوات الاستخباراتية بكل مصادرها وتقنياتها، من البيانات الحكومية العامة، والمعلومات التقنية، وصور الأقمار الصناعية، والمقدرة الواسعة على تجميع المعلومات، وتجنيد الموارد الاستخباراتية، واختراق الحدود السيادية لدولنا، فإنها لم تصل بعد إلى مرحلة إدراكية أكثر تطورا من مجرد تجميع أو تكديس المعلومات والبيانات عنا، وذلك على أهميتها. إن الإشكالية البنيوية تكمن في عدم المقدرة على فهم تلك البيانات والمعلومات التي يجري تجميعها وتحليلها، بتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة الفهم، فهي بعد لم تستطع أن تفهم، أن تفهمنا، وأن تفهم شعوب المنطقة، ولم تستطع بعد أن تخرج عن نطاق نظرتها الاستشراقية لنا، ولدول الجنوب بالمجمل. وهو ما يضع التغني بمفهوم "سلطة المعرفة" في موقف ابستيمي حرج، لأنها تدخل في عالم من الفشل المعرفي، محققة النجاح، وفقط، في فشلها في معرفتنا.
ويبدأ هذا الفشل من ثلاثة محاور: الأول، الفشل في فهم فاعلية الأفراد/ الشعوب العربية بما هي ذوات تشكل التاريخ ولا يمكن إقصاؤها منها، بل هي ذوات في طور الترحال والحركة كي تحقق ذاتها باختلاق مسارب وشقوق في جدران الأنظمة التي سُلّطت عليها، وفي مواجهة أعدائها، فتخلق احتمالات تاريخية أخرى.
المحور الثاني: الفشل في فهم الحدث وتسطيحه ونزعه عن سياقاته، واعتبار كل حدث منعزلا ومنفصلا عن أحداث سابقة، بما يحيل إلى فشل في آليات تشكيل البنية المعرفية الغربية وأدواتها المحددة مسبقا بصندوق أدوات منهجي، ممركز غربيا، يُنتج فهما محددا للأحداث لتكون قابلة للتسويق والقولبة عبر غمر الوعي بفيض معلوماتي تضليلي.
المحور الثالث: الفشل في فهم مركزية فلسطين في المنطقة بما هي بؤرة أو عين زلزال الأحداث الرئيسية، فيتم الاشتغال على تغطيتها بسياق مختلق يرفض الاعتراف باستلابها وبالحضور القوي للنظام الاستعماري فيها.
وستكون اللغة مضمارا زاخرا للتعبير عن هذا الفشل المعرفي، ولتشكل حجابا حاجزا من المعاني المؤدلجة، التي تخلق جملا معرفية ملحونة، تخلق تصورات مشوهة، وتفرض فهم وإدراك الذوات والآخر بطريقة محددة، ومفروضة باتجاه واحد من أعلى إلى أسفل و من الأقوى إلى الأضعف. ففي التغريدات المتتالية لترمب في إثر وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، كانت كلمات "السلام"، و"الحب"، و"الازدهار الرائع"، كلمات ذات وقع غريب على السمع، رغم تكرارها في أوقات سابقة، ومن قبل إدارات أمريكية وحكومات أوروبية متعاقبة، ومن قبل أنظمة عربية فاشلة، وبتعبيرات مختلفة، ولكنها تحمل المعنى نفسه. ومكمن غرابتها أنها تُنطق عن هوى، أي عن "رغبة متخيلة" في أذهان هذه القوى عما تريده شعوب المنطقة وشكل ما تريده. هي إسقاطات رغائبية أكثر من كونها مستمدة من "معرفة موضوعية" في حدها الأدنى، فهي مترفة بالاختزال ومليئة بالتناقض، فيجري عملية توسعة لهذا الاختزال ليصبح استفاضة معرفية، بينما تجسر هوة التناقض بإسقاطات معرفية سابقة، أو آنية، تتشكل بحسب الحدث وسياقاته والتدخلات فيه لتنعكس لغة يُنطق بها للتعبير عنا. ويتسع نطاق "الإسقاطات الرغائبية" ليشمل طبيعة العداوة والمحبة، وبنيتها، وشكلها، وأطرافها، فيُصطنع عدو شقيق بدلا من العدو الأصلي، وتوظف اللغة لخلق تمثلات لهذه العداوات الجديدة، فتصاغ الهويات على أسس من الطائفية والعنصرية والاستقطاب الحاد بدلا من الهوية الجامعة القائمة على التعددية الفكرية والمذهبية والثقافية لشعوب المنطقة.
وبالمحصلة، ونتيجة لسياسات القوى السائدة في عصرنا، فإنه لا يُسمح لنا بتحقيق معرفتنا بأنفسنا، ويراد لنا استبدال ما نعرف عنا بمعرفة لا تعرفنا، أو بالأحرى بمعرفة نجحت في الفشل في معرفتنا!