الحدث - محمد بدر
بدأت الحرب الإيرانية الإسرائيلية يوم 13 يونيو 2025 بغارات إسرائيلية واسعة كضربة افتتاحية في عملية أطلق عليها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو اسم "الأسد الصاعد"، شاركت فيها أكثر من 200 طائرة حربية نفذت سلسلة ضربات جوية في خمس موجات متتالية، استهدفت نحو 100 موقع عسكري ونووي في مختلف أنحاء إيران. تركزت الهجمات على منشآت نووية حساسة، أبرزها منشأة "فوردو" لتخصيب اليورانيوم المحصنة تحت الأرض، ومجمعات "نطنز" و"أصفهان"، إضافة إلى قواعد للصواريخ والطائرات المسيّرة ومراكز للقيادة والسيطرة في كل من طهران، تبريز، وكرمانشاه. بالتوازي، نُفذت عمليات اغتيال دقيقة لقادة بارزين في الحرس الثوري، من بينهم محمد باقري، رئيس الأركان، وحسن سلامي، قائد الحرس الثوري، وغلامعلي رشيد، قائد مركز "خاتم الأنبياء"، إلى جانب علماء نوويين مثل فريدون عباسي ومحمد مهدي طهرانشي.
وقد اعتمدت الضربة على تنسيق استخباري عالٍ، يُعتقد أن الولايات المتحدة ساهمت فيه، من خلال توفير صور أقمار صناعية واختراقات سيبرانية مكّنت من شل الدفاعات الإيرانية جزئيًا. وهدفت "إسرائيل" من خلال ذلك إلى توجيه ضربة استراتيجية تُضعف قدرات إيران النووية والعسكرية، وتعيد فرض خطوطها الحمراء. غير أن النتائج جاءت عكسية؛ إذ لم تسقط طهران في حالة ارتباك، بل ردّت خلال ساعات بهجوم صاروخي ومسيّرات على عمق "إسرائيل"، لتبدأ حرب شاملة ومفتوحة، كسرت قواعد الاشتباك التقليدية، ونقلت المواجهة إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ الصراع بين الطرفين.
القدرة على امتصاص الضربة وتفوق الرد
وعلى الرغم من الخسائر الثقيلة التي لحقت بالقيادة العليا للحرس الثوري الإيراني جراء الضربة الإسرائيلية في 13 يونيو 2025، والتي أسفرت عن اغتيال عدد من أبرز القادة العسكريين، فقد أظهرت إيران قدرة لافتة على التعافي السريع وإعادة هيكلة بنيتها القيادية والعسكرية خلال أيام قليلة. فقد جاء الرد الإيراني شبه فوري، حيث بدأت وحدات الدفاع الجوي والقوة الصاروخية والبحرية بتنفيذ خطط الطوارئ المعدّة مسبقًا، في دلالة على وجود منظومات قيادة وسيطرة متعددة المستويات، بما يحول دون شلل المؤسسة العسكرية في حال استهداف رأسها. وأعلنت طهران خلال 48 ساعة عن تعيين قيادات بديلة، معظمها من الجيل الثاني والثالث للحرس الثوري، ممن خاضوا معارك في سوريا والعراق واليمن ويتمتعون بخبرة ميدانية واسعة.
ويعود نجاح إيران في استيعاب الضربة الأولى إلى عدة عوامل، أبرزها اعتمادها على هيكل قيادي لامركزي، يتيح للوحدات اتخاذ قرارات تكتيكية دون انتظار تعليمات من المركز. كما أن الحرس الثوري ليس مؤسسة فردية القيادة، بل عقائدية الطابع، ما يجعل الولاء للمؤسسة والنظام يتفوق على الولاء للأفراد، وهو ما سمح بانضباط سريع واستئناف العمليات الهجومية. كذلك لعب "مجلس الأمن القومي الأعلى" دورًا محوريًا في إدارة الأزمة، حيث فعّل غرف عمليات مشتركة بين الحرس الثوري والجيش النظامي ووزارة الأمن. هذا التعافي السريع لم يُظهر فقط قدرة إيران التنظيمية، بل كشف عن جاهزيتها النفسية والسياسية لتحمّل تكلفة المواجهة، ما أربك حسابات "إسرائيل" التي كانت تراهن على صدمة استراتيجية تشل القدرة الإيرانية على الرد.
وتواصلًا مع هذا التعافي اللافت، فقد كشفت القدرات الصاروخية الإيرانية خلال الحرب المفتوحة مع "إسرائيل" في يونيو 2025 عن مستوى غير مسبوق من التطور الكمّي والنوعي، إذ تمكنت من إحراج منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية رغم كل ما تتمتع به من تقدم تقني وتنسيق استخباري. ففي اليوم الثاني بعد الضربة الافتتاحية، أطلقت إيران أكثر من 500 صاروخ باليستي ومتوسط المدى وصواريخ كروز، بعضها من طراز "قيام-2" و"ذو الفقار بصير" و"خيبر شكن"، مستهدفة قواعد عسكرية ومطارات ومواقع حساسة في مناطق وسط وجنوب فلسطين المحتلة، أبرزها مطار رامون، ومفاعل ديمونا، ومقرات في تل أبيب وبئر السبع.
وما جعل الضربات الإيرانية فعالة بشكل استثنائي هو التشبع الناري المدروس، حيث أطلقت الصواريخ والمسيرات بكثافة وفي موجات متداخلة، مما أدى إلى إنهاك أنظمة الاعتراض، مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود" و"حيتس"، ودفع بعضها إلى الفشل أو التأخر في الاستجابة. كما أن دمج الصواريخ الباليستية الدقيقة مع طائرات مسيّرة انتحارية منخفضة التحليق أربك أنظمة الرصد، وكشف وجود ثغرات كبيرة في التغطية الدفاعية الإسرائيلية، خاصة في المناطق المحاذية لصحراء النقب. وللمرة الأولى، اعترفت مصادر عسكرية إسرائيلية – عبر تسريبات لصحيفة "يديعوت أحرونوت" – بأن "الدفاع الجوي تعرض لاختراق حقيقي"، حيث سقطت صواريخ مباشرة في مواقع محصّنة وملاجئ، ما أدى إلى خسائر بشرية ومادية محرجة داخل الجبهة الداخلية.
ومن بين أبرز المراكز التي استهدفتها إيران كان مطار "رامون" في الجنوب، والذي توقفت فيه حركة الطيران تمامًا بعد تعرّضه لقصف مباشر، إضافة إلى مفاعل ديمونا النووي الذي أُجليت طواقمه بعد استهداف محيطه بصواريخ متوسطة المدى، في تطور يعكس تجاوز إيران لخطوط حمراء غير مسبوقة. كما ضربت صواريخ ومسيرات إيرانية قاعدة "نيفاتيم" الجوية، إحدى أهم القواعد التي تنطلق منها طائرات F-35، ما أدى إلى تعطيل مؤقت في قدرات سلاح الجو الإسرائيلي.
وفي السياق ذاته، وعلى مستوى الجبهة المدنية، تعرّضت مدينة بئر السبع لضربة مباشرة على منشآت طبية وحيوية، أبرزها إصابة محيط مستشفى سوروكا، ما خلق حالة من الهلع الجماعي وإجلاء جزئي للمرضى، بحسب ما أفادت به صحيفة "يديعوت أحرونوت". كما أصابت الضربات مخازن طوارئ ومستودعات وقود في أسدود وعسقلان، وأُبلغ عن اشتعال حرائق ضخمة في مناطق صناعية هناك. وأفادت تقارير إعلامية إسرائيلية بأن الضربات أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 47 شخصًا وإصابة المئات، ووقوع أضرار مادية فادحة في البنية التحتية، بينها شبكات كهرباء ومياه.
وفي تطور رمزي واستراتيجي مزدوج، كان معهد وايزمان للعلوم في رحوفوت أحد أبرز المواقع التي استهدفتها إيران خلال ردها الصاروخي الواسع في يونيو 2025، وهو ما يُعد أمرا غير مسبوق. المعهد، المعروف بأنه من أهم المراكز البحثية في "إسرائيل" والعالم، لا يقتصر دوره على البحث العلمي المدني، بل يُعتقد أنه مرتبط بشكل غير مباشر ببعض المشاريع الدفاعية والتكنولوجية المتقدمة، ويُستخدم في أبحاث تتعلق بالذكاء الاصطناعي، والفيزياء النووية، والتقنيات المزدوجة الاستخدام، ما جعله هدفًا محتملاً من وجهة النظر الإيرانية.
ووفقًا لتسريبات نُشرت في وسائل إعلام عبرية مثل "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت"، فإن صاروخًا متوسط المدى أصاب محيط المعهد بشكل مباشر، ما أدى إلى أضرار مادية في مرافق خارجية وبعض المختبرات، وإخلاء فوري للموظفين والباحثين. كما نُشرت مشاهد تظهر فرق الطوارئ وهي تتعامل مع حرائق اندلعت في محيط المجمع. هذا الهجوم الكثيف والمركز على الجبهة الداخلية زلزل صورة "المناعة الداخلية" التي لطالما سوّقها الاحتلال، وأجبر قادة الأمن على الاعتراف بأن المواجهة مع إيران تجاوزت قدرات "الردع التقليدي" ودخلت مرحلة الاستنزاف المتبادل.
مأزق استراتيجي وولادة معادلة ردع جديدة
وبالنظر إلى المشهد العام، أظهرت الحرب بين إيران و"إسرائيل" أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية غير مهيأة لتحمّل حرب طويلة الأمد، خاصة في ظل كثافة الضربات الصاروخية الدقيقة التي استهدفت مراكز استراتيجية ومدنية في العمق، وتعطّل منظومات الدفاع الجوي بشكل جزئي. آلاف المستوطنين نزحوا من مدن الجنوب والوسط، بينها بئر السبع وأسدود، وتعرضت منشآت حيوية مثل مستشفى سوروكا، مفاعل ديمونا، ومجمعات صناعية في رحوفوت وأسدود لأضرار مباشرة. هذا الواقع فاقم الضغط الشعبي والإعلامي على الحكومة، وأدخل المنظومة الاقتصادية في حالة شلل شبه تام، مع توقف حركة الطيران، وتعليق الدراسة، وتراجع حركة الأسواق.
وفي مواجهة هذا التصعيد، بدا واضحًا أن إسرائيل تسعى للخروج السريع من المواجهة، دون أن تُظهر ضعفًا استراتيجيًا. لذلك، كثّف رئيس حكومة الاحتلال الاتصالات مع الإدارة الأمريكية، مطالبًا بـ"ضربة نهائية" أمريكية تستهدف منشأة "فوردو" النووية تحت الأرض، والتي لم تُدمّر بالكامل في الضربة الأولى. وكان الهدف من ذلك استعادة الردع وإجبار إيران على وقف إطلاق النار من موقع الضعف.
لكن، كان واضحا أن تل أبيب وبعض الدوائر الغربية راهنت على أن تؤدي الهجمات، وخصوصًا اغتيال قيادات بارزة وتدمير مواقع استراتيجية، إلى تأجيج الشارع الإيراني ضد نظام الجمهورية الإسلامية، باعتبار أن حجم الخسائر وصِدمة الضربة قد تثير سخطًا شعبيًا داخليًا، على غرار موجات الاحتجاج السابقة في أعوام 2009 و2019 و2022. غير أن هذه الرهانات باءت بالفشل، إذ لم تخرج مظاهرات تُذكر، بل على العكس، شهدت المدن الكبرى مثل طهران وأصفهان ومشهد تجمعات شعبية داعمة للنظام، شارك فيها عشرات الآلاف، ورفعت شعارات الانتقام والوحدة الوطنية.
ويُعزى هذا الفشل في تحريك الداخل الإيراني إلى عدة عوامل بنيوية وسياسية. أولًا، نجح النظام في تأطير الهجوم ضمن سردية "العدوان الخارجي"، مما عزز من تماسك الجبهة الداخلية، وجعل حتى قطاعات معارضة تتريث في التعبير عن مواقفها. ثانيًا، تمتلك الجمهورية الإسلامية أجهزة أمنية وإعلامية فعالة نجحت في السيطرة على الفضاء العام، وقيدت أي محاولات للتحريض أو التعبئة المضادة. ثالثًا، ساعد الرد العسكري السريع والقوي الذي نفذته إيران ضد "إسرائيل" في رفع منسوب الفخر الوطني، وظهر النظام بمظهر من يملك زمام المبادرة، لا بمظهر العاجز أو المرتبك. وبالتالي، فإن الحرب جاءت بنتائج معاكسة لما كان يأمله خصوم النظام في الخارج، حيث أدى التصعيد إلى تعزيز تماسك النظام داخليًا، وتراجع النزعة الاحتجاجية مؤقتًا أمام الشعور العام بالتهديد السيادي الخارجي، وهو ما أحرج الحسابات السياسية والأمنية الإسرائيلية.
وفي نهاية الجولة العسكرية بين إيران و"إسرائيل"، بات واضحًا أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي أعلنها قبل بدء الحرب. فقد روّج نتنياهو، مدفوعًا بدعم جزئي من بعض الدوائر الغربية، إلى أن العملية العسكرية ستكون "حاسمة" وتهدف إلى إسقاط النظام الإيراني أو على الأقل دفعه إلى الانهيار الداخلي، وتدمير قدراته الصاروخية، ووقف مشروعه النووي بالكامل. لكن ما جرى فعليًا كان عكس ذلك تمامًا. فرغم الضربات الجوية الإسرائيلية المكثفة التي استهدفت منشآت نووية ومقار قيادية، لم تستسلم طهران، بل ردّت بقوة غير مسبوقة، وأثبتت قدرتها على ضرب العمق الإسرائيلي وشل جبهته الداخلية.
وقد انتهت المعركة باتفاق وقف إطلاق نار شفهي، جاء بوساطة قطرية، ولم يشمل أي تنازل سياسي من الجانب الإيراني، ولم يتحقق فيه أي من شروط "إسرائيل" الأساسية، لا على صعيد تفكيك البرنامج النووي، ولا على صعيد نزع الصواريخ، ولا حتى في تقليص نفوذ الحرس الثوري. في المقابل، خرج نتنياهو من الحرب مثقلًا بالانتقادات الداخلية والإخفاقات العسكرية، وواجه دعوات متزايدة للاستقالة من داخل حكومته ومن المؤسسة الأمنية التي اعتبرت أن العملية تمت "دون تصور استراتيجي نهائي". والأسوأ من ذلك أن الخطاب الذي روّج له نتنياهو بشأن "استسلام إيران واتفاق مذل مع واشنطن" لم يتحقق، بل بدا أن إيران خرجت أقوى سياسيًا وإقليميًا، فيما بدت "إسرائيل" عاجزة عن فرض شروطها، وغير قادرة على تحمّل كلفة الحرب الطويلة، في انعكاس لفشل استراتيجي كامل.
في المجمل، أسفرت المواجهة العسكرية بين إيران و"إسرائيل" في يونيو 2025 عن تغيير جذري في قواعد الاشتباك التقليدية التي حكمت العلاقة بين الطرفين طوال العقود الماضية. فبعد أن كانت "إسرائيل" تعتمد على ما يسمى بـ"المعركة بين الحروب" أي الضربات الاستباقية المحدودة داخل سوريا والعراق وحتى داخل إيران، دون رد مباشر، جاءت هذه الحرب لتقلب المعادلة، وتُثبت أن طهران لم تعد تخشى المواجهة المفتوحة، بل باتت تمتلك أدوات الردع والقدرة على خوض حرب تقليدية متعددة الأدوات.
وأهم تحول في قواعد الاشتباك هو أن العمق الإسرائيلي بات مكشوفًا بشكل واضح أمام الترسانة الصاروخية الإيرانية، بما يشمل منشآت استراتيجية كمفاعل ديمونا، ومطار رامون، وحتى مواقع حساسة قرب تل أبيب. كما أظهرت طهران أنها قادرة على دمج الصواريخ الباليستية الدقيقة والمسيّرات الانتحارية في عمليات منسقة، ما أربك الدفاعات الجوية الإسرائيلية وقلّص فعاليتها. هذا التطور لم يُعد مجرد حادث استثنائي، بل تحول إلى معادلة ردع جديدة، مفادها أن أي ضربة إسرائيلية مستقبلية على العمق الإيراني ستقابل برد مباشر ومكلف على العمق الإسرائيلي، ما يجعل حسابات التصعيد أكثر تعقيدًا. إيران عززت هذه المعادلة عبر استعراض صمودها الداخلي، ومرونة قيادتها العسكرية، وسرعة إعادة تموضع وحداتها بعد الضربات. النتيجة أن إيران خرجت من المواجهة معززة لمكانتها كقوة إقليمية قادرة على الردع، فيما باتت "إسرائيل" مضطرة إلى إعادة تقييم استراتيجياتها.