أكتب هذه الأسطر والعالم على أعتاب انعقاد الجمعية العامة للامم المتحده والتي، وليعذرني فخامة أمينها العام، أود اليوم مناداتها بـ "الرجعيّة السامه للذمم المنكتمة".. أوليست الأمم المتحدة لنا جميعاً؟ وليست هي بالتالي من يُفترض نظرياً أن نتطلع إليها كلما ضاق ذرعنا بحكوماتنا ومضطهدينا على السواء، وهم واحد في الكثير من الحالات، وكلما انتظرنا المُعين، وعلى الرغم مما قد يراه المرء منا من سذاجة في ذلك؟ وبالتالي، فكما العتاب يكون على قدر المحبه، كذلك يكون الإحساس بالخذلان على قدر الآمال المحبطه.. الأمر الذي يحدو بي لطلب المعذرة مجدداً من فخامة الأمين العام، ولا أقول سيادته لأن في ذلك إجحاف بدوره، على اختياري للتعبير المستخدم، ممارسةً لحقي كواحد من أبناء جنسنا البشري للتعبير عن إحساسي بالخذلان الذي نشأت وترعرعت عليه، والذي يبدو أن قدري/قدرنا أن نشيب عليه.
ما يمكن قراءته على أن سبع دول ما من شك بأنها تعيد حساباتها السابقة، فإما أن تكون قد تعمدت الغياب عن التصويت، أو امتنعت عنه على أقل تقدير إن لم تكن عارضته، وإلا فكيف نفسر بأن القرار حصل على عدد أقل من المؤيدين نسبة لعدد البلدان المعترفة أصلاً بدولة فلسطين.
في العاشر من مايو 2024 أقرت الجمعية العامة قبول فلسطين بصفتها دولةً عضواً في الأمم المتحدة، وذلك بعدما كانت أقرت منذ ديسمبر 2012 أن تستخدم أمانتها العامة إسم دولة فلسطين في كافة الوثائق الرسمية. وفي الثاني عشر من شهر سبتمبر الجاري أقرت الجمعية العامة بأغلبية ساحقة ما يعرف بـ "إعلان نيويورك" الذي يحدد "خطوات ملموسة ومحددة زمنياً ولا رجعة فيها "نحو حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، حيث حصل القرار المؤيد للإعلان على 142 صوتاً مؤيداً مقابل 10 أصوات معارضة، من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل، وامتنعت 12 دولة عن التصويت. وقد تجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أهمية القرار وحجم الدعم له، إلا أنه علينا ألا ننسى بأن 149 دولةً في العالم تعترف بـ "دولة فلسطين"، ما يمكن قراءته على أن سبع دول ما من شك بأنها تعيد حساباتها السابقة، فإما أن تكون قد تعمدت الغياب عن التصويت، أو امتنعت عنه على أقل تقدير إن لم تكن عارضته، وإلا فكيف نفسر بأن القرار حصل على عدد أقل من المؤيدين نسبة لعدد البلدان المعترفة أصلاً بدولة فلسطين.
وبدايةً من يوم الثالث والعشرين من شهرنا هذا، تنعقد الجمعية العامة في دورتها الثمانين، وحتى التاسع والعشرين منه، تحت عنوان براق وملفت يقول: "معا نحقق الأفضل: ثمانون عاما وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان". وكما هو مشاع، تنوي مجموعة لا بأس بها من الدول، قد تصل إلى 22 بلد، من بينها أعضاء دائمين في مجلس الأمن، إعلان اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، في الوقت الذي مُنع فيه رئيسها من دخول الولايات المتحدة الأمريكية لحضور أعمال الجمعية، في خرق واضح لا يخلو من الوقاحة لالتزامات بلد المقر التعاقدية والقانونية والأخلاقية، والأهم من ذلك، في ما لا يمكن قراءته إلا على أنه تحد واستهتار بكافة الدول، بحكوماتها وشعوبها، المعترفة والتي تنوي الاعتراف بدولة فلسطين على السواء.
لكن، وعلى الرغم من كل هذه الاعترافات والإعلانات، إلا أنها لا تتعدى كونها مسرحية تقوم البلدان المشاركة بها بدور لا يهدف سوى لإرضاء غرورها وضميرها وربما بعضاً من رأيها العام، دوماً لأغراض السياسة الداخلية في كل بلد أكثر من أي اعتبار آخر، ولكبح عطش الكثير من الأبواق الإعلامية المطبلة والمزمرة التي لا يشغلها سوى الخبر الساخن، والرومانسي والبراق دون الغوص في حقائق الأمور على أرض الواقع، أو لطمس تلك الحقائق وشغلنا عنا للأسف. نعم أقول مسرحية، لأن كل هذه القرارات، وأكرر على الرغم من أهميتها وترحيبنا الصادق بها، إلا أنها تبقى، كما بقيت على الدوام، حبراً على ورق لا تغير شيئاً بالنسبة لفرد فلسطيني واحد ممن يقتلون ويجوعون في غزة، ولا ممن يسلبون حتى حق العيش بمعزل عن الخوف والقهر والاستبداد اليومي في الضفة الغربية، ولا من تكبدوا ولا يزالوا مآسي ترجيديا النزوح واللجوء لآكثر من سبعين عام خلت في مظلمة تاريخية لا مثيل لها في عصرنا.. مظلمة على امتدادها لم تقنع أياً منهم بالتخلي عن مفتاح بيته العتيق في حيفا ويافا وعكا وعسقلان وغيرها الكثير الكثير من مدن وقرى فلسطين المسلوبة.
وعلى الرغم من كل هذه الاعترافات والإعلانات، إلا أنها لا تتعدى كونها مسرحية تقوم البلدان المشاركة بها بدور لا يهدف سوى لإرضاء غرورها وضميرها وربما بعضاً من رأيها العام
فهل تمكنت كل هذه المواقف المعلنة والقرارات المقرّة من منع الولايات المتحدة استخدام الفيتو الجائر حتى ضد مقترح متواضع يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، ولو مؤقتاً؟ وهل تمكنت من فعل أي شيء في وجه التوسع الاستيطاني الإسرائيلي المستمر في الضفة، أو حتى حمله على عدم مضاعفة حواجزه وبواباته التي باتت تقطع أوصال المكان وتجعل من كل بلدة ومدينة جسماً منفصلاً مبتتراً من امتداداته، حتى الطبيعية، نحو أحياء قد تبعد أمتاراً معدودة عن مراكزها، أو نحو أشجار زيتون تمتد جذورها تحت البيوت الفلسطينية وإلى قلوب أهليها، وتتدلى أغصانها على شبابيكهم الموصدة خوفاً من بطش المحتل والمستوطنين؟ أولم يخرج نتنياهو مراراً وتكراراً في الأسابيع والأيام الأخير، مزمجراً مهدداً لكل من تسول له نفسه حتى التفكير بالإعتراف بدولة فلسطين، مؤكداً ومعلناً بأن لا مكان لدولة فلسطينية وبأنها لن تقوم؟ والأهم هنا هو ليس تصريحاته وزمرته الحاكمة فقط، وإنما كل ما يقوم به بشكل مستمر ودون أي رادع أو حسيب ولا رقيب على الأرض صبح مساء من جرائم وإجراءات لا تتم دون محاسبة فحسب، بل أن حتى انتقادها يعتبر من قبيل معاداة السامية التي لا بد وأن يعاقب صاحبها عليها. فمن المجازر المستمرة في غزة والإبادة العلنية بكافة السبل الممكنة، بما فيها التجويع ووأد الرضّع، إلى التهجير القسري الذي يطلقون عليه تسمية "الطوعي" والتي أقل ما يقال عنها بأنها وحشية تدوس أدنى معايير الكرامة البشرية، وإلى إطلاق قطعان المستوطنين ليعيثوا فساداً، وخراباً، وقتلاً، وحرقاً وتنكيلاً في الضفة الغربية والقدس وحرمها الشريف، أو برامج الاستيطان المستمرة دون انقطاع وفي تزايد مضطرد تقطع أوصال الأرض التي قبل الفلسطينيون بها على أنها مجال الدولة الفلسطينية المنشودة، والتي لا تشكل أصلاً سوى حوالي 21 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية التي هي أرضهم، ولا يسكنها سوى حوالي ثلث الفلسطينيين بعدما شتت الاحتلال ثلثيهم الباقيين حول العالم في حالة لجوء لا يُراد حتى الاعتراف بها.
لذلك فلا بد لنا من أن نكون صريحين مع أنفسنا، واضحين في تسمية الأشياء باسمها الحقيقي.. وإلا فنحن شركاء في المسرحية وفي المهزلة وفي الكذب التاريخي الذي يُراد به إلباس الضحية ثوب الجلاد، وماكافأة الأخير على مكاسبه وغنائمه المروية بدماء الأبرياء والأطفال ومنعدمي الحيلة. من هنا فلا بد أيضاً لصوت جريء يصرخ في وجه العالم أجمع، وأوله بني القربى ومن هم من لحمنا ودمنا: كفى.. فلا تعبير أبلغ من كلمة "طز..." نكتبها بالقلم العريض فوق كل القرارات والإعلانات والبيانات، بل ونبصقها بوجه كل من يتباهى بها على أنها إنجاز كبير، يمكّن المجتمع الدولي، المتمثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أذكر بتمسيتها التي اقترحت في بداية هذه الأسطر بـ "الرجعية السامة للذمم المنكتمة"، يمكّنه من إقناعنا بأنه يتمكن، بعد ثمانين عام من عمر المنظمة الدولية، من تحقيق مقولة "معا نحقق الأفضل: ثمانون عاما وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان" التي اختارها عنواناً لدورة الجمعية الحالية.. فلا تنمية تتحقق أو حتى يُمهد لها الطريق، ولا حقوق للإنسان الذي نمالقه في الوقت الذي نسلبه أدنى مقوماته البشرية، الكرامة، ولا سلام طالما لم تقترن الاعترافات، والإعلانات والبيانات بالحد الأدنى من الأفعال التي تمكننا من رد كلمة "طز..." نحو نتنياهو وأمثاله، بدلاً من أن يبقى هو الفاعل والقادر الوحيد في هذا العالم على صفع العالم أجمع بها، بالأفعال قبل الأقوال.