في ظل موجة الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية، والترحيب الفلسطيني الرسمي بها، يظهر على السطح شيء من القلق أو لربما اللامبالاة على صعيد المستويات الشعبية. فبينما تفهم الرسمية الفلسطينية هذه الاعترافات بأنها تصب في سياق الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، من جهة، وأنها تأتي، من جهة أخرى، وفي سياق أهم، كاعتراف بشرعية النهج السياسي للقيادة الحالية، تبدو الأوساط الشعبية أكثر فهما للوقائع والحقائق من منطلق التصريحات السياسية والتطبيقات العملية التي تتبعها دولة الاحتلال على الأرض. فخطوة الاعتراف، وبالرغم من رمزيتها، ستظل في ذلك الإطار الرمزي، ما لم تتحقق على شكل خطوات عملية وفعلية من جانب الدولة المعترفة بفلسطين. وذلك، طبعا، استنتاج مفروغ منه، كما أنه يظل في موضع التساؤل والشك إذا ما فهم بمنطق استعراضي كما ادعت الولايات المتحدة. ذلك أن السياق الأعم لمشهدية التقتيل المستمر في فلسطين، والذي تشتغل من خلاله الآلة التوسعية الإسرائيلية، قائم على منطق الاستباحة التامة والمطلقة، ليس فقط بالنسبة لكل ما له علاقة بالفلسطيني، وإنما بكل مكونات المنطقة، شعبا، وأرضا، وسيادة، وذلك دون حتى أدنى تفكير بمنطق التعايش.
وتبدو كلمة التعايش في سياق المشهد الدموي المسيطر على فلسطين، وفي ظل استهداف دول عربية أخرى بالقصف، كما حدث في قطر، وتونس، وكما يحدث في سوريا، وفي لبنان، ساذجة، أو حتى سخيفة، والتي تجر معها معجما من المصطلحات ذات السياق المشابه من قبيل: السلام، والتفاوض، واحترام الآخر، وإيجاد أرضيات مشتركة، بما فيها كلمة "التطبيع"، التي أصبحت أكثر جرمية في وقتنا الحالي من أي وقت مضى، ذلك أنه وحتى الدول العربية المطبعة، لم تعد تجرؤ على الحديث عن "الاتفاقات الإبراهيمية"، بل باتت تجد نفسها مهددة هي الأخرى، وتحت الاستهداف المباشر، وذلك كما عبر العديد من القادة العرب في القمة العربية الإسلامية الأخيرة في الدوحة.
وكان يظهر جليا، إبان مجريات القمة العربية، ذلك الشعور الذي اعترى القادة العرب عموما بكونهم مستباحين، وأن علاقتهم بإسرائيل ليست علاقة بين حلفاء أو شركاء، أو مبنية على مصالح مشتركة، فهنالك دولة استعمارية، باتت تعلن صراحة عن أهداف عسكرية استعمارية طموحة في المنطقة غايتها تحقيق حلم "دولة إسرائيل الكبرى". وعلى ما يبدو ، أن تعلم العرب من الدروس التي يقدمها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 77 عاما من دمه ولحمه لم تفد العرب في شيء، فالاستباحة الممنهجة للفلسطيني، ليست إلا مقدمة لاستباحة قادمة لتحقيق رؤى توسعية على حساب شعوب المنطقة. ولا يفهم من ذلك أن إسرائيل تريد أن تهيمن فقط على النظام الإقليمي، فالواقع يشي بأن لها اليد الطولى في تنفيذ سياساتها في المنطقة على صعيد تغيير الديموغرافيا والجغرافيا، وإنما يفهم منه أيضا أن سياسة الاستباحة هي جزء أصيل من التكوين الاستعماري والذي يعتمد استراتيجية طويلة الأمد، تزيد من حجم الألم والمعاناة التي يجري الاحتفاء بهما كحق في الدفاع عن النفس، وكحق في الوجود، وكثمن يدفع مقابل خطيئة ارتكبتها دول الشمال، وعلى العرب والفلسطينيين تحديدا أن يدفعوا ثمنها.
إن أهم ما يمكن الاستثمار فيه من موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، هو إعادة تقعيد إسرائيل، على المستوى الدولي، بأنها دولة استعمارية، وأنها ليست بضحية، والتركيز على مقولة أن المنطقة لا يمكن أن تستقر ولا يمكن أن يكون هناك أفق استقرار ما لم يتم الاعتراف أولا بطبيعة هذه الدولة المستعمرة، وأنها مسؤولة أولا وأساسا عن ارتكاب جريمة بحق الفلسطينيين، وأن عليها تحمل تبعاتها ومسؤولياتها، أما التفكير بحلول قبل ذلك، وإطلاق موجات من السعادة الغامرة بإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة، فما هي إلا ضروب من الأوهام البائسة، التي ما إن تمضي سكرتها حتى ندرك كم ما زلنا نحن المستباحين أشقياء.