الحدث العربي والدولي
منذ وصول الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو إلى الحكم في أغسطس 2022، برزت كولومبيا كواحدة من أبرز الدول في أمريكا اللاتينية التي تبنّت موقفاً صريحاً ومتصاعداً في مناصرة القضية الفلسطينية. هذا التحول لم يكن عادياً، فالدولة التي كانت تُعتبر تقليدياً من أقرب الحلفاء لواشنطن و"إسرائيل" في المنطقة، وجدت نفسها مع أول رئيس يساري في تاريخها تضع فلسطين في قلب خطابها السياسي والأخلاقي. بيترو، الذي جاء من خلفية يسارية مسلّحة بخطاب تحرري، أعاد تعريف الموقف الكولومبي باعتباره جزءاً من مواجهة عالمية للاستعمار والإمبريالية، وجعل من فلسطين رمزاً مركزياً لهذا النضال.
منذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، تبنّى بيترو خطاباً شديد الوضوح، إذ وصف ما يجري بأنه إبادة جماعية، واعتبر أن الاحتلال الإسرائيلي يطبّق نظام أبارتهايد على الشعب الفلسطيني. في مايو 2024، اتخذ خطوة تاريخية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل"، وهو قرار عزز اصطفاف كولومبيا ضمن المعسكر اللاتيني المناهض للاحتلال إلى جانب بوليفيا وتشيلي وهندوراس. ولم يكتفِ بذلك، بل صعّد من المواجهة عبر إعلان طرد آخر الدبلوماسيين الإسرائيليين في أكتوبر 2025، احتجاجاً على اعتراض "أسطول الصمود" المتجه إلى غزة واعتقال ناشطين كولومبيين كانوا على متنه.
هذا الموقف ترافق مع إجراءات اقتصادية ودبلوماسية قوية، إذ ألغت حكومته اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مع "إسرائيل"، ودفعت باتجاه تحركات على مستوى الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية لطرح القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني، لا مجرد نزاع سياسي. أكثر من ذلك، تبنّت كولومبيا دعم المساعي القانونية لمحاسبة الاحتلال في المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما أعطى زخماً إضافياً لمسار عزل "إسرائيل" دولياً.
لكن بيترو لم يحصر موقفه في لغة الدبلوماسية وحدها، بل صاغ خطاباً أيديولوجياً جريئاً أعاد إلى الأذهان روح الستينيات والسبعينيات، حين كانت حركات التحرر في العالم تربط نضالاتها ببعضها البعض. فقد دعا بشكل صريح إلى تشكيل "جيش شعبي عالمي لتحرير فلسطين"، مشبهاً ذلك بألوية التضامن الأممية التي شاركت في الحرب الأهلية الإسبانية. بالنسبة له، التضامن السياسي والإنساني لم يعد كافياً أمام ما يجري في غزة، بل إن المرحلة تتطلب فعل مقاومة أممية يعيد الاعتبار لفكرة النضال المشترك ضد الاستعمار. هذه الدعوة أثارت ردود فعل متباينة، إذ اعتبرتها "إسرائيل" تحريضاً على العنف، بينما لاقت ترحيباً واسعاً في الأوساط الشعبية الفلسطينية واللاتينية التي رأت فيها امتداداً لتجربة كاسترو وتشي غيفارا.
الخطاب الكولومبي الجديد لا ينفصل عن تحولات أوسع في أميركا اللاتينية، حيث تعود قوى اليسار الجديد إلى الحكم في أكثر من بلد، محملة بذاكرة طويلة من مقاومة الانقلابات العسكرية والهيمنة الأميركية. بيترو قدّم فلسطين بوصفها مرآة لهذه التجارب، شعب يقاوم الاستعمار والاستيطان كما قاومت شعوب القارة تدخلات واشنطن وأنظمة الطغيان المحلية. ومن هنا، فإن الموقف الكولومبي ليس مجرد سياسة خارجية ظرفية، بل هو إعلان عن اصطفاف أيديولوجي يرى في فلسطين خط المواجهة الأول ضد النظام الدولي غير العادل.
بهذا المعنى، تحوّل النظام الكولومبي بقيادة بيترو من حليف تقليدي لـ"إسرائيل" إلى خصم سياسي ودبلوماسي صريح لها، بل وإلى أحد الأصوات الأممية الأكثر جرأة في الدفاع عن فلسطين. هذا التحول يضع كولومبيا في قلب المشهد العالمي كدولة تُعيد إحياء الروح الأممية القديمة، وتمنح القضية الفلسطينية بعداً جديداً يتجاوز حدودها الجغرافية، لتصبح جزءاً من معركة عالمية ضد الاستعمار والهيمنة.