الأحد  05 تشرين الأول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قراءة في الاقتصاد السياسي لـ ترامب وحركة "ماغا" MAGA" (الجزء 3)

إعداد: د. ماجد صبيح أستاذ الاقتصاد في جامعة القدس المفتوحة سابقا

2025-10-05 08:21:41 AM
قراءة في الاقتصاد السياسي لـ ترامب وحركة
ترامب - أرشيفية

الحدث الاقتصادي

تنشر صحيفة الحدث، على أجزاء، قراءة في الاقتصاد السياسي لـ ترامب وحركة "ماغا" MAGA"، من إعداد: د. ماجد صبيح أستاذ الاقتصاد في جامعة القدس المفتوحة سابقا.

لقراءة الجزء الأول والجزء الثاني

1.7.2.7 أسباب العجز التجاري للولايات المتحدة 

حسب تصريحات الرئيس ترامب، إن الهدف الرئيسي من الرسوم الجمركية هو رفع تكلفة الواردات، مما يشجع الأمريكيين على شراء السلع المنتجة محليًا بأسعار نسبياً أقل، وبالتالي تقليل الطلب على الواردات. ويرى ترامب أن الرسوم الجمركية ستساعد في حماية الإنتاج الأمريكي من المنافسين الأجانب، وإعادة العمليات التصنيعية الأمريكية من الخارج إلى الداخل، مما يحفز الصادرات ويقلل العجز التجاري. وفي نفس الوقت يدعو ترامب السعودية وتايوان-ثم وقطر والإمارات المتحدة- إلى الاستثمار المباشر في داخل الولايات المتحدة ، ما يعني توفير المزيد من الموارد المالية لتمويل العجز( Reinbold , Brian and  Wen, Yi,2018)

الشكل البياني التالي يبين اتجاهات العجز التجاري للولايات المتحدة الأمريكية( Reinbold , Brian and  Wen, Yi,2018) 

إن قرار الولايات المتحدة بإنهاء قابلية تحويل الدولار إلى الذهب( آب 1971)، وما تبعه من انهيار نظام بريتون وودز Bretton Woods في أوائل السبعينيات، أدخل الاقتصاد العالمي في حقبة جديدة: أصبح الدولار الأمريكي العملة العالمية، وأصبحت سندات الخزانة الأمريكية أكثر أصول الاحتياط طلبًا في العالم. وقد جاء ذلك نتيجة القوة التاريخية للعملة الأمريكية، وهو ما عزز الطلب على الدولار الأمريكي وسندات الخزانة لاستخدامهما كوسيلة تبادل دولية وكأداة لحفظ القيمة( Reinbold , Brian and  Wen, Yi,2018) .

2.7.2.7 تفسير العجز التجاري في النظرية الاقتصادية

في النظرية الاقتصادية الكلية، يمثل صافي الصادرات (الميزان التجاري للدولة) الفرق بين الادخار الوطني والاستثمار، أي: NX=S−I . وبالتالي، فإن اختلال الميزان التجاري يعني أن الادخار الوطني (الادخار الخاص + ادخار الحكومة) غير كافٍ لتمويل الاستثمار الوطني. ومع تزايد الفجوة بين الادخار والاستثمار saving gap (S – I)، بدأ ت فجوة الادخار تتجه نحو قيم سالبة بشكل متزايد في أوائل السبعينيات 1970s ، وذلك كما هو مبين في الشكل التالي 2 :

Source: Bureau of Economic Analysis. Federal Reserve Bank of St. Louis in Reinbold and Yi,2018 .

 يُظهر الشكل ( Figure 2 )أن الفجوة التراكمية بين الادخار والاستثمار بدأت في النمو في منتصف السبعينيات1970s ، وتضخمت في السنوات التالية ، لتصل إلى نحو 11 تريليون دولار، وهو ما يشير إلى وجود مبلغ مماثل تقريبًا من حيازات الأجانب من العملة الأمريكية وسندات الحكومة الأمريكية. لذلك، فإن النظام النقدي الدولي الحالي — القائم على الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية مهيمنة، وعلى سندات الخزانة الأمريكية كأكثر أدوات حفظ القيمة طلبًا — هو السبب الجذري وراء العجز التجاري المستمر في الولايات المتحدة (Reinbold and Yi,2018) . وفي هذه العلاقة، تظهر إحصائيات البنك الدولي؛ في عام 2023، أن نسبة إجمالي المدخرات إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة 18.7%، بينما كانت 44.4% في الصين، و25.7% في ألمانيا، و24.6% في اليابان، و23.6% في كندا. كما أشار صندوق النقد الدولي (IMF) في أحد تقاريره لعام 2024 عن الولايات المتحدة إلى أن: "هناك حاجة لمصالحة reconcile توازن الادخار والاستثمار في الحسابات الوطنية مع رصيد الحساب الجاري في ميزان المدفوعات، حيث أن الفجوة قد اتسعت بشكل كبير" Shatakishvili,2025)) .

كما شهد التوظيف في قطاع التصنيعManufacturing  الأمريكي تراجعا، واتجاها تنازليا في هذا القطاع عبر فترة ممتدة طويلة( Reinbold , Brian and  Wen, Yi,2018))  :

قد يكون تراجع التوظيف مرتبطا بالعجز التجاري، لكن في الواقع، أظهر الاقتصاديون تيموثي كيهـو Timothy Kehoe وكيم رول Kim Ruhl وجوزيف ستاينبرغ Joseph Steinberg — باستخدام نموذج التوازن العام العشوائي الديناميكي (DSGE) المُعايَر — أن 85٪ من انخفاض التوظيف في قطاع تصنيع السلع بين عامي 1992 و2012 كان سببه الارتفاع السريع في إنتاجية العمل في ذلك القطاع، في حين أن النسبة المتبقية 15٪ فقط كانت نتيجة لارتفاع العجز التجاري الأمريكي مع بقية العالم(Reinbold and Yi,2018) .

انخفض التوظيف في قطاع التصنيع الأمريكي بنحو 20٪ بين عامي 2000 و2007، أي حتى قبل حدوث الأزمة المالية 2008. وتزامن هذا الانخفاض الحاد مع تدهور الميزان التجاري الأمريكي وارتفاع العجز التجاري مع الصين. بناءً على هذا التزامن، هل الصين هي المسؤولة عن تراجع وظائف التصنيع في الولايات المتحدة؟ يرى كل من رينبولد، و يي (Reinbold and Yi,2018) ، أن الولايات المتحدة تحولت من الإنتاج الضخم كثيف العمالة labor-intensive mass production (وأطلقا عليها مرحلة الثورة الصناعية الأولى) في منتصف القرن التاسع عشر، إلى الإنتاج الضخم كثيف رأس المال( وهذه حسب الباحثين تمثل مرحلة الثورة الصناعية الثانية) في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الكبرى في التصنيع كثيف رأس المال قبل الحرب العالمية الثانية. 

يفسّر الباحثان هذا التحول في الفن الإنتاجي ، والميزة النسبية لتكاليف الإنتاج ، أنه في المرحلة الأولى من التصنيع، ينتقل العمل من الزراعة إلى إنتاج السلع كثيفة العمالة مثل المنسوجات. ومع ارتفاع تكاليف العمالة، تدخل الدولة المرحلة الثانية، لأن ارتفاع تكاليف العمالة يجعل الإنتاج كثيف العمالة غير مربح، فتتحول الميزة النسبية إلى التكنولوجيا الموفرة للعمالةlabor-saving technology أو التكنولوجيا كثيفة رأس المال. هذا التحول يدفع الشركات أو التقنيات كثيفة العمالة إلى الانتقال إلى الخارج ، وتشهد الدولة تراجع التصنيع deindustrialization والزراعة، مع هيمنة قطاع الخدمات (Reinbold and Yi,2018) .

بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في الستينيات، بدأت الولايات المتحدة دخول مرحلة دولة الرفاه موجهة نحو قطاع الخدمات( وهذه حسب الباحثان هي مرجلة ثورة الرفاه( welfare revolution )، بينما بدأ قطاعها الصناعي يُعاد تخصيصه إلى الخارج. وفي الثمانينيات، عندما دخلت اليابان مرحلة دولة الرفاه، أصبحت ما يُعرف بـ النمور الآسيوية المنتج والمصدّر الرئيسي للسلع كثيفة العمالة. وبحلول التسعينيات، ومع تبني النمور الآسيوية للتكنولوجيا كثيفة رأس المال بسبب ارتفاع تكاليف العمالة، أصبحت الصين المنتج والمصدر الرئيسي للسلع كثيفة العمالة. ويرى الكاتبان ، أن الصين تقف على أعتاب دخول مرحلة الإنتاج كثيف رأس المال مع ارتفاع تكاليف العمالة بسرعة، ولذلك نشهد انتقال الشركات كثيفة العمالة بعيدًا عن الصين إلى دول آسيوية أخرى (مثل فيتنام والهند) وإلى إفريقيا.

ويرى خبير التجارة الدولية روبرت لورانس Robert Lawrence ، أستاذ التجارة الدولية والاستثمار في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، أنه من المفارقة، أن السياسات الحالية لإدارة ترامب، من جهة تسعى إلى تقليص العجز التجاري عبر رفع الرسوم الجمركية، لكن من جهة أخرى، تقدّم تخفيضات ضريبية، وهو ما يعني أن الحكومة الأمريكية ستوفر أقل. إذن، اليد اليسرى تعمل بعكس اليد اليمنى. وما لم تتغير أنماط الانفاق، ويتم ، إما بالادخار أكثر، أو الاستثمار أقل، والاقتراض أقل، فإن العجز التجاري لن يتغير على الإطلاق (Robert Lawrence, interview, April 09, 2025 , https://www.hks.harvard.edu)     

أيضا يرى روبرت لورانس  Robert Lawrenceأن أحد تأثيرات الرسوم الجمركية على المدى المتوسط سيكون تعزيز الدولار الأمريكي، لأن الأمريكيين سيحتاجون إلى عملات أجنبية أقل للاستيراد، وعندما يقوى الدولار، فإن ذلك سيؤثر على جميع المصدرين الأمريكيين، سواء كانوا يصدرون سلعًا أو خدمات.

النقطة الثانية هي أن الأجانب لن يقبلوا هذه الرسوم بدون رد فعل. فهم سيقومون بالرد بالمثل. كثير من ردود الفعل هذه يمكن أن تأتي في شكل رفع الرسوم على الصادرات الأمريكية السلعية، بالإضافة إلى حديث الأجانب عن فرض ضرائب على مبيعات الخدمات الأمريكية، على بعض خدمات شركات تكنولوجيا المعلومات التي تُباع في الخارج.

لذلك سيكون هناك تأثير سلبي على المصدرين بأي شكل تنظر إليه: سترتفع تكاليف المدخلات، وسيضطرون للبيع أقل في أسواق تُغلق أمامهم بسبب رد الفعل الأجنبي، وسيصبح الدولار أقوى، مما يجعل منتجاتهم أغلى.

8.وظائف في الولايات المتحدة  مدعومة بالصادرات إلى الصين US Jobs Supported by Exports to China

تظهر بيانات التجارة السلعية للولايات المتحدة،  الأهمية والحجم الكبير للتجارة الدولية بالنسبة لاقتصاد الولايات المتحدة. ففي عام 2024 استوردت الولايات المتحدة سلعًا بقيمة تقارب 3.3 تريليون دولار من شركاء التجارة الدوليين، في حين بلغت قيمة السلع المُصدّرة من الولايات المتحدة إلى دول أخرى حوالي 2.1 تريليون دولار. أي أن العجز في الميزان التجاري السلعي بلغ نحو 1.2 ترليون دولار. ونحو ربع(24.6%) هذا العجز كان مع الصين(295.5 مليار)، ثم مع الاتحاد الأوروبي(235.9 مليار)، وشكل نحو 19.7%، ثم مع المكسيك (171.5مليار)، وشكل 14.3% ، تليها اليابان (69.4 مليار) بنسبة 5.8%، ثم كوريا الجنوبية(66 مليار)، بنسبة 5.5%، وكندا(62 مليار)، بنسبة 5.2% .أي أن، العجز مع هذه البلدان شكل ثلاثة أرباع (75%) مجموع عجز الميزان التجاري السلعي الإسمي للولايات المتحدة في عام 2024 (https://www.census.gov/foreign-trade/balance/c1220.html).

 تسهم الصادرات الأمريكية إلى الصين ليس فقط ماليا ، بل تدعم أيضًا آلاف الوظائف الأمريكية في ولايات مختلفة عبر الولايات المتحدة. حيث تسهم في توفير سبل العيش للأمريكيين في مختلف أنحاء البلاد. في عام 2021( أحدث بيانات التوظيف المتاحة) ، ارتفعت صادرات السلع الأمريكية إلى الصين بنسبة 22% مقارنة بالعام السابق(ملحق، Table 6)، بينما زادت صادرات الخدمات قليلا مما شكل دعما للوظائف المرتبطة بالصادرات في الولايات المتحدة. وقدّرت بحوالي 1.06 مليون وظيفة أمريكية بفضل صادرات السلع والخدمات إلى الصين. وتعد الصين واحدة من ثلاث دول فقط - إلى جانب كندا والمكسيك- تدعم مشترياتها من السلع والخدمات الأمريكية أكثر من مليون وظيفة (US-China Business Council, US Exports to China, 2023:14)) . 

 وشهدت جميع الولايات الأمريكية تقريبًا في ذلك العام، باستثناء ثلاث، زيادة في عدد الوظائف المدعومة بالصادرات إلى الصين. وسجلت 34 ولاية نموًا يزيد عن ألف وظيفة في هذا المجال، بينما شهدت ثلاث ولايات زيادة بأكثر من 10,000 وظيفة. وكانت كاليفورنيا وتكساس هما أكبر ولايتين من حيث الوظائف المدعومة بالصادرات إلى الصين، حيث دعمت صادراتهما حوالي 132,400 و106,900 وظيفة على التوالي(US-China Business Council, US Exports to China, 2023:14)

كما شهدت الولايات المصدّرة للزراعة والثروة الحيوانية، بما في ذلك إلينوي، كانساس، نبراسكا، أيوا، مينيسوتا، وتكساس، بعضًا من أكبر الزيادات في عدد الوظائف المدعومة بالصادرات إلى الصين في ذلك العام (2021). وابتداءً من عام 2020، ألغت الصين بعض الحواجز الهيكلية في التجارة وقدمت إعفاءات جمركية للمنتجات الزراعية وسلع أخرى لتفي بالتزاماتها الشرائية بموجب اتفاق المرحلة الأولى للتجارة. وفي ولايات كانساس، نبراسكا، داكوتا الشمالية، وداكوتا الجنوبية، تضاعف عدد الوظائف المدعومة بالصادرات إلى الصين أكثر من مرة منذ عام 2019( (US-China Business Council, US Exports to China, 2023:16)

تعطي هذه البيانات مؤشر على أن الصادرات الأمريكية ، والوظائف المرتبطة بها ستتأثر سلبا اذا قامت الصين-وقد قامت فعلا- بالمعاملة بالمثل، أي بفرض رسوم جمركية إضافية على المستوردات من الولايات المتحدة خاصة الزراعية المرتبطة أكثر بالصين، أو اذا ما قامت الصين بالبحث عن مصادر  بديلة من غير الولايات المتحدة.  تعد البذور الزيتية والحبوب Oilseeds and grains — مثل فول الصويا والقمح والذرة — أكبر الصادرات الأمريكية إلى الصين ، حيث بلغت قيمتها 25.4 مليار دولار عام 2022 (ملحق، (Figure1 . وقد توزّع نمو صادرات البذور الزيتية والحبوب على نطاق واسع في الولايات المتحدة. فشهدت 30 ولاية توسعًا في صادراتها من هذه المحاصيل، بينما سجّلت 11 ولاية زيادة بأكثر من 100 مليون دولار، وكانت ولاية إلينوي صاحبة أكبر زيادة على الإطلاق بقيمة 653 مليون دولار. كما أن عشر ولايات أمريكية صدّرت إلى الصين أكثر من مليار دولار من هذه المحاصيل في عام 2022( US-China Business Council, US Exports to China,2023: 6)).

9. تراجع قطاع التصنيع- انهيار العمالة THE COLLAPSE OF MANUFACTURING EMPLOYMENT IN THE 2000s

بلغت حصة التوظيف قي قطاع التصنيع ذروتها عند 35% في عام 1953؛ وبحلول عام 2016، كانت هذه الحصة قد انخفضت إلى ما دون 10%  من إجمالي التوظيف في القطاع الخاص الأميركي. وبلغت مساهمة هذا القطاع ذروتها في الناتج المحلي الاجمالي عند 33% في عام 1953، وبحلول عام 2016 انخفضت حصته إلى 13% فقط( Houseman,2018:6).

رغم أن نسبة العاملين في قطاع التصنيع بالولايات المتحدة تقل عن 10% من إجمالي التوظيف في القطاع الخاص، قد يظن البعض أن فقدان وظائف التصنيع لم يعد مهمًا. لكن عبر روابط سلاسل التوريد، يتمتع قطاع التصنيع بتأثير كبير على الاقتصاد. فحوالي نصف العمالة اللازمة لإنتاج السلع المصنعة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة تعمل خارج قطاع التصنيع نفسه( Houseman,2018:26)).

يسهم التوظيف في الصناعات التحويلية في خلق وظائف جديدة عبر أثر الطلب: فالعاملون في التصنيع ينفقون دخولهم في الاقتصاد، مما يولد فرص عمل إضافية. وباستخدام نموذج توازن عام محلي، قدّر موريتّي,2010) Moretti) أن كل وظيفة صناعية جديدة في مدينة تولّد 1.6 وظيفة غير صناعية. أما الوظائف الصناعية الماهرة فتملك أثرًا مضاعفًا أكبر: حيث أن كل وظيفة صناعية ماهرة إضافية تخلق حوالي 2.5 وظيفة في أنشطة السلع والخدمات المحلية Moretti in Houseman,2018:26)) .

بلغ حجم العمالة( التوظيف) الذروة في قطاع التصنيع(الصناعات التخويلية) أكثر من 19 مليون في عام 1979. ومن عام 1979 إلى 1989 فقد قطاع التصنيع manufacturing نحو 1.4 مليون وظيفة، أي ما يعادل 7.4% من قاعدته. وقد تركزت هذه الخسائر في صناعات المعادن الأساسية والنسيج والملابس. ويعكس التراجع في صناعة الملابس والمنسوجات انتقال الإنتاج في هذه الصناعات كثيفة العمالةlabor-intensive industries إلى الدول النامية( Houseman,2018:3).

ثم ما بين عامي 1989 و2000، شهد عدد العاملين انخفاضا بحوالي 700 ألف وظيفة (أي 4%) ،  تفسره هاوسمان Houseman بالكامل تقريبًا بـ الاستعانة بمصادر خارجيةoutsourcing للمهام التي كانت تُنجز داخل المصانع سابقًا( Houseman,2018:4). 

في العقد الأول من الألفية الجديدة، وفي الفترة ما بين عامي 2000 و2007، انخفضت العمالة في الصناعة التحويلية بشكل حاد وبمقدار 3.4 مليون وظيفة، أي ما يعادل 20%. وقد تلقى التوظيف في التصنيع (الصناعات التحويلية) ضربة قوية أخرى خلال الركود الكبير 2008–2009، ولم يتعافَ سوى بشكل طفيف خلال فترة الانتعاش التالية. وما بين عامي 2007 و2016، تراجع التوظيف في قطاع التصنيع بصافي قدره 1.5 مليون وظيفة ( Houseman,2018:4).

 بالمجمل منذ عام 2000، انخفض التوظيف في الصناعات التحويلية (التصنيع Manufacturing ) بما يقارب 5 ملايين وظيفة، أي ما يعادل أكثر من 28%. طالت جميع الصناعات تقريبًا. وقد رافق هذه الانخفاضات في العمالة إغلاقات واسعة للمصانع. فقد تراجع عدد المنشآت الصناعية بأكثر من 78,000 منشأة بين عامي 2000 و2014، أي ما يعادل انخفاضًا بنسبة 22% Houseman,2018:5)) .

1.9 أسباب انخفاض العمالة في قطاع التصنيع 

تجادل هاوسمان Houseman بأن تراجع التوظيف في قطاع التصنيع الأمريكي يعود بصفة أساسية -إن لم يكن بصورة كلية- إلى الأثر السببي للتجارة الدولية. بينما الأثر السببي للأتمتة ثانوي ، أو أنه بلا أثر يذكر ، خاصة وانها تعزو أثر الارتفاع في الإنتاجية إلى فرع الحواسيب والمنتجات الالكترونية ، وبدونها يكاد ، أو يختفي أثر الإنتاجية على التوظيف في الصناعات التحويلية.

1.الأثر السببي للتجارة The Causal Effect of Trade

تزامن الانخفاض الحاد في التوظيف قي قطاع التصنيعmanufacturing employment في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة مع اتساع كبير في عجز الميزان التجاري السلعي، قادته زيادة الواردات من الصين. وهذا أوحى بأن التجارة، ولا سيما الواردات الصينية، كانت وراء هذا الانهيار( Houseman,2018:21)).

قام أوتور، ودورن، وهانسون (2013)بدراسة  لفحص كيفية تأثير نمو الواردات الصينية على التوظيف في قطاع التصنيع. وقدروا أن ربع الانخفاض في التوظيف في هذا القطاع بين عامي 1990 و2007 يرتبط بنمو الواردات الصينية Autor, Dorn, and Hanson in Houseman,2018:21)) . كما وجدت دراسات أخرى آثارًا سلبية كبيرة للواردات الصينية على مبيعات الشركات الأميركية، واستثماراتها، وبراءات اختراعها، وجهود البحث والتطوير (Autor et al.; Pierce and Schott in Houseman,2018:22) . وتثير هذه الآثار السلبية مخاوف أكبر بشأن فقدان القدرة التنافسية للمصنعين المحليين، بما يحمله ذلك من تداعيات مستقبلية على التوظيف في القطاع.

وتوصل هاريسون وماكميلان (2011) Harrison and McMillan in Houseman,2018:22)).   في دراسة تأثير أنشطة الشركات متعددة الجنسيات multinational companies, على التوظيف في قطاع التصنيع، إلى أن نقل الإنتاج إلى دول منخفضة الأجور (offshoring) يعد بديلاً للتوظيف المحلي، لكنه قد يكون مكملًا في بعض الحالات ويزيد التوظيف المحلي للشركة الأم. وبشكل عام، توصلا إلى أثر سلبي صغير على التوظيف المحلي للشركات الأم.

كما توصل بوم، فليان، وباندالاي-نايار، 2015 (Boehm, Flaaen, and Pandalai-Naya in Houseman,2018:22) في دراستهم إلى أن تحويل إنتاج المدخلات الوسيطة  إلى الخارج offshoring of intermediate inputsـ والذي تقوم به بشكل أساسي الشركات متعددة الجنسيات يعد بديلاً للتوظيف الأميركي. وتشير تقديرات النماذج الهيكلية إلى أن تحويل إنتاج المدخلات الوسيطة إلى الخارج من قبل الشركات متعددة الجنسيات يفسر نحو 13% من الانخفاض في التوظيف في قطاع التصنيع الأميركي بين 1993 و2011.

بينما ركزت تلك الدراسات على تأثير الواردات الصينية Chinese imports أو أنشطة نقل الإنتاج إلى الخارج من قبل الشركات متعددة الجنسيات multinational company offshoringعلى التوظيف في قطاع التصنيع manufacturing employment الأمريكي، تناول كامبل ،2017 أثر الارتفاع المؤقت في قيمة الدولار على التوظيف قي قطاع التصنيع في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة. دراسة كامبل تختبر التأثيرات المترتبة على ارتفاع سعر الصرف على تشغيل العمالة في قطاع التصنيع، والذي يعمل من خلال ارتفاع الواردات (ليس فقط من الصين) وانخفاض الصادرات. قدّر كامبل أن ارتفاع سعر صرف الدولار يمكن أن يفسر 1.5 مليون من خسائر الوظائف في قطاع التصنيع بين عامي 1995 و2008 (Campbell in Houseman,2018:23) .

ويشير كامبل إلى أنه حتى عندما تنخفض قيمة العملة لاحقا فإن ذلك الانخفاض، لا ينعكس في الوظائف، لأن تكاليف الإنتاج قد تظل أقل في الدول النامية التي استثمرت فيها الشركات، ولن يؤدي انخفاض العملة إلى دفع تلك الشركات للتخلي عن تكلفة استثماراتها الغارقة sunk-cost investments. وقد تصبح الشركات العاملة في الخارج أكثر كفاءة بمرور الوقت ، وتعمل على تطوير ميزة نسبية comparative advantage. وبالتالي، فإن ارتفاع الدولار قد يحفّز استثمارات في الدول منخفضة التكلفة أن تستمر في الاستفادة من ميزة التكلفةcost advantage حتى بعد أن ينخفض الدولار إلى مستواه السابق(Campbell in Houseman,2018:23) .

2. التأثير السببي للأتمتة The Causal Effect of Automation

حسب هاوسمان(Houseman) ، بينما وجدت الدراسات عمومًا أن العوامل المرتبطة بالتجارة لعبت دورًا مهمًا في تراجع التوظيف في قطاع التصنيع المريكي خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، لكنها أخفقت في الكشف عن علاقة قوية بين الأتمتة وفقدان الوظائف في ذلك القطاع خلال تلك الفترة. (Houseman,2018:24) . لكن يلاحظ، أن هاوسمان توصلت إلى هذا الاستنتاج من خلال عدد قليل من الدراسات ، لذلك"، يعد استنتاج هاوسمان متسرعا، أو غير كافي بدلالة الدراسات التي تناولتها، ولا سيما أن هناك  دراسات أخرى، تشير نتائجها إلى عكس الاستنتاج الذي توصلت إليه هاوسمان.

باستخدام بيانات عن الصناعات التحويلية، درس عاصم أوغلو وآخرون، 2014   العلاقة بين الاستثمار في معدات تكنولوجيا المعلومات، نمو إنتاجية العمل، والتوظيف بين عامي 1980 و2009. وقد وجدوا أنه رغم وجود علاقة قوية بين الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات ونمو الإنتاجية، فإن هذه العلاقة تكاد تختفي بمجرد استبعاد صناعة الحواسيب والمنتجات الإلكترونية computer and electronic products industryمن العينة. صحيح أن الصناعات كثيفة الاستخدام لتكنولوجيا المعلومات IT-intensive industries شهدت نموًا أعلى قليلًا في إنتاجية العمل خلال التسعينيات، إلا أن هذا التأثير تلاشى في العقد الأول من الألفية، وهو بالضبط الوقت الذي شهد فيه القطاع تراجعًا حادًا في التوظيف (Acemoglu et al in Houseman,2018:24) . مع ذلك، لا يجب نفي أثر الأتمتة ، على التوظيف في قطاع التصنيع ، بل ان العكس هو الصحيح ، وهو أن قطاع التصنيع شهد تراجعا في العمالة بفعل الأثر السببي للأتمتة في قطاع الحواسيب والمنتجات الالكترونية.

وخلال الفترة 1980 - 2007 في الولايات المتحدة ، وجد الباحثون(2015)، أن المناطق الأكثر تعرضًا لواردات الصين شهدت انخفاضات كبيرة في التوظيف، خاصة في الصناعات التحويلية manufacturing industries. وقد شمل هذا التأثير جميع المهن الصناعية، بما في ذلك الوظائف المهنية عالية المهارة  high-skilled والوظائف التقنية  technical jobs ومن أبرز النتائج التي توصلوا إليها ، أن تأثيرات الأتمتة Automation في الصناعات التحويلية كانت أكثر وضوحًا في الثمانينيات لكنها تضاءلت بشكل كبير بحلول العقد الأول من الألفية الجديدة، .بينما تسارعت آثار الأتمتة في الصناعات غير التحويلية مع مرور الوقت (Autor, Dorn, and Hansonin Houseman,2018:24)

وبالعلاقة مع سياسات ترامب الهادفة إلى إحياء قطاع التصنيع والوظائف، يرى خبير التجارة الدولية روبرت لورانس Robert Lawrence ان الادعاء المركزي، أن أمريكا يمكن أن تُبعث من جديد، بل إن الطبقة الوسطى الأمريكية يمكن أن تُستعاد؛ إذ يمكن مساعدة العمال الذين لا يحملون شهادات جامعية، ويمكن إعادة إحياء المناطق المتخلفة إذا حفزنا الإنتاج في قطاع التصنيع  في الولايات المتحدة. مع ذلك، أن أكثر بقليل من 8% فقط من الأمريكيين يعملون في قطاع التصنيع، وحتى لو تمّ إغلاق العجز التجاري تمامًا في السلع المصنعة، فمن المرجح أن يرتفع التوظيف في التصنيع بنسبة تتراوح بين نقطة مئوية إلى نقطتين فقط. أي أنه بدلًا من حوالي 8% من الأمريكيين العاملين في التصنيع، سيكون حوالي 10% فقط يعملون في هذا القطاع.

ان حماية الوظائف الأمريكية وإعادة التصنيع إلى الداخل الأمريكي التي ترفع كمبررات للرسوم الجمركية هي غير واقعية، انه خطاب الحنين إلى ماضٍ لم يعد موجودًا، حينما كان التصنيع محركًا رئيسيًا للوصول إلى الطبقة الوسطى. إنه متأخر عن الواقع بحوالي 30 إلى 40 عامًا، لأن التصنيع تقلّص نتيجة كل من الأتمتة وطريقة الانفاق، وهو الآن يمثل جزءًا صغيرًا نسبيًا من اقتصادنا(Robert Lawrence, interview, April 09, 2025 , https://www.hks.harvard.edu)  .

 

يتبع الجزء الرابع