ترجمة الحدث
يتصاعد الجدل السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة حول قضية جيفري إبستين، بعدما فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأوساط السياسية بإعلانه دعم جهود داخل الكونغرس للكشف عن مزيد من الوثائق المرتبطة بالملف، في خطوة تأتي وسط ضغوط متزايدة من داخل الحزب الجمهوري لدفعه إلى تغيير نهجه. وكتب ترامب على منصته “تروث” أن “على الجمهوريين في مجلس النواب التصويت لصالح الإفراج عن ملفات إبستين، لأن لا شيء لدينا لنخفيه”، في محاولة واضحة لإظهار الثقة ببراءته من أي علاقة غير قانونية مع الرجل الذي هزّت فضائحُه الحياة السياسية الأميركية منذ سنوات.
لكنّ هذا الإعلان لا يعكس الصورة كاملة. فخصوم ترامب يتهمونه بالسعي إلى عرقلة التصويت سابقًا والحدّ من نشر الوثائق خشية ظهور تفاصيل قد تمسّ به شخصيًا، خصوصًا بعد تداول رسائل بريدية تحدّثت عن أن إبستين ألمح إلى أن ترامب “كان يعرف بشأن الفتيات”. ورغم نفي الرئيس التهمة، فإن هذه الشبهات غذّت الانقسام داخل الحزب الجمهوري، الذي كان حتى وقت قريب يقف خلف ترامب ككتلة واحدة. وتعزّزت هذه الشرخات عندما سحب دعمه من النائبة الجمهورية البارزة مارجوري تايلور غرين، إحدى الشخصيات الأكثر التصاقًا بمعسكر MAGA، في مؤشر على اتساع رقعة الخلاف داخل المعسكر اليميني. ويستعد رئيس مجلس النواب مايك جونسون لطرح قرار يُلزم وزارة العدل بنشر ما تبقى من وثائق القضية، لكنّ المسار التشريعي لا يزال مهددًا بالتعطيل داخل مجلس الشيوخ، حيث ليست واضحة بعد درجة استعداد الجمهوريين لمنح القرار أغلبية. وفي موازاة ذلك، حذّر ترامب من أنّ “بعض أعضاء الحزب يُستغلون”، في إشارة إلى النواب الذين انضموا إلى الديمقراطيين في الدعوة إلى كشف الوثائق بالكامل.
وتصاعد الجدل بعد أن نشر مشرّعون في مجلس النواب حزمة من الرسائل التي استلموها من وكلاء تركة إبستين، تضمّنت اتهامات مباشرة لترامب بأنه “قضى ساعات” مع إحدى ضحايا إبستين، فيرجينيا جوفري، التي أنهت حياتها هذا العام، كما وُصف فيها بأنه “قذر”. وأعاد الديمقراطيون في لجنة الرقابة التذكير بأن المراسلات “تثير أسئلة جدية حول ترامب ومعرفته بجرائم إبستين المروّعة”. ورغم ذلك، يواصل ترامب تحويل الأنظار باتجاه شخصيات سياسية أخرى، مطالبًا المدعية العامة السابقة بام بوندي والـFBI بفتح تحقيق حول علاقات إبستين بالرئيس الأسبق بيل كلينتون، وبالأخص بعلاقته مع رئيس جامعة هارفارد السابق لاري سامرز، وهو المطلب الذي جرى رفضه في يوليو عندما أكد مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل أنه لا توجد أدلة كافية لتوجيه اتهامات جديدة. ويعود أصل الفضيحة إلى الدور الذي لعبه إبستين، بمساعدة شريكته غيلاين ماكسويل، في استدراج فتيات قاصرات إلى منازله في نيويورك وفلوريدا تحت غطاء “جلسات تدليك”، قبل أن تُوجَّه إليه اتهامات بالاتّجار بالقصّر. وقبل العثور عليه ميتًا في زنزانته عام 2019 خلال انتظاره المحاكمة، كان مسجلًا بالفعل كـ”مجرم جنسي” إثر إدانته عام 2008 بدفعه أموالًا لقاصر مقابل خدمات جنسية. ورغم إعلان الـFBI رسميًا أنه انتحر ولم يبتزّ أحدًا، فإن آلاف المتابعين من أنصار ترامب يواصلون تبنّي روايات مؤامراتية تتهم “الدولة العميقة” بالتغطية على شخصيات نافذة.
وفي موازاة هذا الصخب السياسي، تتواصل في الولايات المتحدة نقاشات محتدمة حول المعايير الإعلامية التي تحكم التغطية المتصلة بقضية إبستين، وخصوصًا الشق المرتبط باحتمال تعامل الرجل مع أجهزة استخبارات أجنبية، وعلى رأسها الاستخبارات الإسرائيلية. فقد ازدادت الانتقادات الموجهة لوسائل الإعلام الغربية بعد تجاهلها شبه التام للوثائق التي كشفتها منصة Drop Site News خلال الأسابيع الماضية، متضمّنة عشرات المستندات الرسمية التي تشير — وفق المنصة — إلى تواصل مباشر بين إبستين وجهات أمنية إسرائيلية. وبالرغم من حساسية هذه المعلومات، فإن الإعلام الأميركي السائد لم يمنحها أي مساحة تُذكر، ما أثار موجة تساؤلات حول أولويات التغطية ومدى خضوعها لاعتبارات سياسية. ولفت الصحفيان رايان غريم ومرتازا حسين، في سلسلة مقالات، إلى أن التغطية الأميركية تبدو منحازة بشكل واضح؛ إذ تبدي المؤسسات الإعلامية اهتمامًا بالغًا بأي رابط محتمل بين إبستين وترامب، بينما تتجاهل الروابط الواردة في الوثائق بشأن الجهات الإسرائيلية. ويرى الكاتبان أن هذا النمط يعكس طبيعة البنية الإعلامية الأميركية التي تُضخّم ما يخدم السجال الحزبي الداخلي، خصوصًا مع اقتراب موسم الانتخابات. أما الكاتبة كاتلين جونستون فذهبت أبعد من ذلك، متهمة الإعلام الغربي بأنه يتحرك وفق منطق يخدم “الإمبراطورية الأميركية” التي تقدّم علاقتها بإسرائيل بوصفها علاقة طبيعية غير قابلة للمساءلة.
وبحسبها، فإن تجاهل الملفات المرتبطة بإسرائيل يهدف إلى تفادي فتح نقاشات أوسع حول النفوذ الإسرائيلي، وحول الدور الأمني الأميركي الممتد في مناطق مثل الصومال وكينيا، والتي يتم التعتيم عليها رغم استمرار العمليات العسكرية هناك. وترى جونستون أن هذا النهج ليس جديدًا؛ فهو امتدادٌ لنمط طويل من تزيين السياسات الخارجية الأميركية وإخفاء ممارسات مرتبطة بالحروب، والتوسع العسكري، والرقابة، وعسكرة الشرطة، بينما يُحصر النقاش العام في قضايا انتخابية سطحية. وتشير إلى أن نشر معلومات عن علاقة ترامب بإبستين يُحدث ضجة إعلامية قصيرة العمر، على عكس نشر معلومات حول روابط إبستين مع الاستخبارات الإسرائيلية، الذي قد يفتح بابًا سياسيًا حساسًا تميل المؤسسات الأميركية إلى تجنّبه. وتبقى خطورة ملف إبستين في أنه يتجاوز نطاق الجرائم الجنسية ليشمل شبكة معقدة من العلاقات المالية والسياسية التي استخدمها في بناء نفوذ واسع داخل دوائر صنع القرار.
وتشير الوثائق التي أعيد تداولها إلى تورّطه في عمليات ابتزاز سياسي استهدفت شخصيات نافذة عبر تسجيلات ولقاءات مغلقة، فضلًا عن تورطه في تحويلات مالية مشبوهة. ويعتقد باحثون مستقلون أن هذه الأنشطة كانت جزءًا من دور أكبر قد يشمل مهام استخباراتية غير رسمية أو تعاونًا مع أجهزة استخبارات أجنبية، وهي الزاوية التي لا يزال الإعلام الأميركي يتجنب الخوض فيها رغم خطورتها. ومع عودة الملف إلى الواجهة اليوم بدفع من ترامب نفسه، تتقاطع أبعاد القضية على نحو غير مسبوق: اشتباك حزبي داخلي، شبهات تتعلق بشبكات نفوذ عابرة للحدود، تساؤلات عن علاقة إبستين بإسرائيل، وأزمة ثقة عميقة في الإعلام الأميركي الذي يُتهم بمحاصرة النقاش ومنح الأولوية لما يخدم صراعات واشنطن الداخلية. وهكذا تتحول قضية إبستين مجددًا إلى مرآة للاضطراب السياسي والإعلامي الذي تعيشه الولايات المتحدة، وإلى ملف يفتح أسئلة أكبر مما يطرحه الماضي: أسئلة عن السلطة والمنظومة وما يُسمح للرأي العام أن يعرفه — وما يُراد له أن يبقى في الظل.
