الحدث- جوليانا زنايد
رصدت "الحدث" بعضاً من قصص العاطلين عن العمل إما لأسباب إجتماعية، أو نتيجة مشاكل في التنشئة، ومنهم ثلاثينية تقف على حافة الطريق كل يوم مودعة أطفالها الذاهبين إلى المدرسة، ثم تعود لعالمها وحيدة تجهز المنزل لعودتهم، وتتحسس وجنتيها وقد اخشنتا، وهي المتعلمة حبيسة المنزل، التي انضمت إلى 24.7 من العاطلين عن العمل فور دخولها الحياة الزوجية.
وآخر هو المستلقي على سريره كجثة هامدة، غادر العمل وعزل نفسه ليحصي خطاياه، فكم من الحقد في قلبه، وكم من البغض حتى لأقرب الناس له، وكم يفتقد الشعور بكونه إنسان يستحق التقدير.
إثنان بنظر الخبراء النفسسين والإجتماعيين يعانون آفة البطالة المدمرة للإنسان وكل ما حوله، يمرون بحالات نفسية مزمنة تقصيهم عن سوق العمل ومن ثم عن الإطار الإجتماعي الطبيعي كأفراد قادرين على التفاعل والإنتاج.
"البطالة القسرية"
الأولى جاحظة العينين، يناكف الكلف كل ركن من وجهها، قررت فضح سرها لـ"الحدث" ، لكن الجميلة بدأت من النهاية حيث ستكون بداية جديدة، حسب قولها، تقول "ت.ع": "كل ما مضى كان سهوة لن أحسبها من عمري، سأستمر بالمقاومة ضد من يحتجزني هنا بعيداً عن أحلامي، رغم أني أحبه، لكني مضطرة للمقاومة، فإني دون ممارسة عملي، ودون شخصيتي الإجتماعية التي كنت عليها، دون استقلالي المادي والشخصي أشعر أن جسدي يسكنه شخص آخر".
تتابع "ت.ع": "حين عدت لرسوماتي السابقة، تشجعت لأرسم من جديد، ومرت لحظة لقائي الأول بألواني وكأنها عام من الذكريات وأعوام من الاشتياق لا لشيء، بل لنفسي، لكن بعد اللوحة الأولى فوجئت بكم الترهل بخطوطي، كان محبطاً جداً أن جزءاً كبيراً من مهاراتي قد فقد".
تضيف "ت.ع": "ما عدت أرسم، ولا أعمل، ونادراً ما كنت أغادر المنزل لقضاء حاجة أو لزيارة عائلتي، وكان هذا مزعج لزوجي أيضاً، فهو يعتقد أن مكان المرأة منزل زوجها، أو بالأحرى "مطبخ زوجها" ويرى أن عمل المرأة يقتصر على تلبية احتياجات زوجها وأبنائها من طبيخ وكيّ وغسل وتدريس...".
تشير "ت.ع" إلى مدى صعوبة تغير عقلية زوجها لكنها مؤمنة حق الإيمان بأنها صبرت أكثر مما ينبغي وبأن نجاحاً سينعكس على تعاملها مع أبنائها، فتشدد على أنها في الفترة الأخيرة لم تعد تحتملهم، بل باتت تلبي احتياجاتهم "بميكانيكية"، وكأنه واجب بعيد عن شعورها بأنها أم تقدم كل الحب لأبنائها.
تقول "ت.ع": "كيف لي أن أقدم كل ما علي من واجبات للآخرين وأنا غير قادرة على التصالح مع نفسي؟ غير قادرة على التعرف عليها حتى!"
بتوكل وابتسامة تنهي حديثها قائلة: "قدري أن أواجه حياة صعبة بكل تفاصيلها، لكن هذا أسهل بكثير من أن أستمر في حياتي دون أن أعمل وأنتج، وأشعر بأن لي أهمية".
عقد نفسية
وعلى خلافها، يروي السيد "ح.م" قصته وهو مهشم النفسية ولا أمل له، لا يعرف حتى من أين يبدأ، فلا تسلسل لكل ما رواه، ويتلعثم بطريقة تعبر عن مدى عدم اتزانه، وهو حاقد على كل ما حوله ولا يعرف السبب، جعل الجميع أعداءه دون حجة مقنعة.
يقول "ح.م": "أعلم أن أبي سبب كل ما أنا فيه، ولا أستطيع أن أكره ذلك الرجل الذي استغلني وأخوتي، حيث نعمل بدلاً منه وهو من يحصد جهدنا، دون شكراً حتى، بت أكره نفسي المحرومة من كل شيء، واليائسة من سيناريوهات الحسد التي لا تفارق مخيلتي، فكم تمنيت أن يكون كل ما هو لأبناء عمي لي، كم تمنيت أن أتمكن من قتلهم هم وكل من يملكون ما أشتهي!"
ويتابع حديثه: "أبي الذي اعتاد النوم حتى ساعات متأخرة من النهار، فيما نقوم نحن بعمله، هو ذاته الذي باع كل ما يمكن أن يبقى لمستقبلي أنا وأخوتي، هو الذي جعلني دون نقطة بداية، هو الذي يشعرني بحاجة شديدة لغفوة مطولة، لأرتاح قليلاً من كل هذا الغضب الذي يحفر عميقاً في داخلي".
التبعات السيكولوجية والاجتماعية
من جانب نفسي يرى الخبير الاجتماعي زهير الصباغ أن للبطالة تأثيراً مدمراً على نفسية الشباب، فهي تتجه بهم نحو سلوكيات غير سوية، إما بهدف الحصول على النقود أو بهدف التفريغ، مبيناً أن الشعور بالعجز والإحباط، قد يدفع الإنسان للإدمان وتعاطي المخدرات أو الكحول، أو حتى القيام بالسرقة والاحتيال أحياناً.
يضيف الصباغ، أن كثيراً من الأزواج العاطلين عن العمل، وبسبب بحثهم عن التقدير الذي يفقدونه في منازلهم، كنتيجة للوم والضغط عليهم من قبل أبنائهم وزوجاتهم، أو نتيجة لفقدانهم الثقة بأنفسهم، يتجهون نحو إنشاء علاقات خارج إطار العلاقة الزوجية، بهدف تعزيز ثقتهم بأنفسهم، وبحثاً عن التقدير.
ويشير إلى أن الطبيعة الطبقية الرأسمالية للمجتمع الفلسطيني تسهم بشكل كبير بعدم حصول الكثير من الخريجين أو الباحثين عن عمل على فرصة، فحسب رأيه إن الفرص توزع بشكل غير متكافئ، وتمنح لأبناء العائلات المعروفة وذات السلطة، فيما يهمش أبناء العائلات البسيطة، ومن ناحية أخرى يعزو الصباغ عدم حصول بعض الشباب على فرصة عمل لرفضهم الفرص البسيطة، والتي قد تعرضهم لنظرة اجتماعية سلبية.
ومن جانبها ترى الخبيرة الاجتماعية زهيرة كمال أن العنف دائرة مغلقة، وبالتالي كل ما قد يعانيه الأب أو الأم من اضطربات نفسية، ينعكس على شخصية وسلوكيات أبنائهم في المجتمع في مرحلة لاحقة.
كما اعتبرت كمال أن الدول التي تعاني نسبة عالية من البطالة، هي دول تهدر رأس المال البشري الموجود فيها، مشددة على ضرورة إجمال المرأة في كافة مجالات العمل والتخطيطات، كونها تشكل نصف الموارد البشرية، واستبعادها عن مجلات العمل هو تأخير لعملية التنمية.
وتفسر كمال الحالة النفسية للأزواج العاطلين عن العمل، بأنهم يشعرون بفقدانهم التدريجي لدورهم الاجتماعي كمعيلين لأسرهم حسب السائد، ما يشكل حالة مستمرة من الغضب قد تتفاقم لدرجة العنف، والذي بطبيعة الحال سيصب على الأبناء والزوجة، التي ستفرغ بدورها غضبها بالأبناء أيضاً، مستكملة "دائرة العنف" سالفة الذكر.
فيما بينت الأخصائية النفسية في مركز علاج وإصلاح ضحايا التعذيب منار عرار، أن البطالة وما يتبعها من اضطرابات نفسية سبب أساسي للجنوح وارتكاب الجريمة، تجاه النفس أو الآخر، فإن الإحباط، وعدم الشعور بالثقة قد يتسببان بعدم رغبة الإنسان للاستمرار بحياته، وبالتالي الإقدام على الانتحار، كما يمكن لغيرة الإنسان السلبية أن تنتج حالة من الغضب والتوتر الدائمين.
تضيف عرار أن الإنسان غير القادر على توفير الاحتياجات الأساسية للاستمرار بالحياة حسب "هرم ماسلو"، معرض لكل أنوع الاضطرابات النفسية المزمنة، مبينة أن العامل الاقتصادي من أشد العوامل المحددة لمدى استقرار شخص ما.