الخميس  09 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فلسطين بعد الرئيس "عباس"... مستقبل شعب على المحك

2016-01-11 06:42:37 AM
فلسطين بعد الرئيس
الرئيس محمود عباس
 

الحدث - مصدر الخبر

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 

على الرغم من أن القصد كان إلهام أتباعه في حركة فتح، فإن خطاب عباس المتلفز في الذكرى الحادية والخمسين لانطلاقة المجموعة، ألقى الضوء بدلاً من ذلك على أزمة لم يسبق لها مثيل، والتي تستمر في إلحاق الدمار بالشعب الفلسطيني. ولم يبدُ عباس في كلمته دفاعياً ومفتقراً إلى أي مبادرة جديدة أو جادة فحسب، وإنما بدا كما لو أن نيته النهائية كانت تتركز حول بقائه السياسي، ولا شيء غير ذلك.


في خطابه يوم 31 كانون الأول (ديسمبر)، قذف عباس بالعديد من الكليشيهات القديمة، معاقباً إسرائيل في بعض الأحيان، ولو بلغة حذِرة ومحسوبة بعناية، وأصر على أن أي قرارات حيوية تتعلق "بمستقبل أرضنا وشعبنا، وحقوقنا الوطنية" سوف "تخضع للاستفتاء العام و(يصوت عليها) المجلس الوطني، لأن شعبنا الذي قدم التضحيات الجسام، هو صاحب الولاية، ومصدر السلطات".


من المفارقات أن عباس يترأس السلطة الفلسطينية الآن بتفويض انتهى في كانون الثاني (يناير) 2009، وأن حزبه، فتح، الذي رفض قبول نتائج الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الأراضي المحتلة في العام 2006، يستمر في التصرف باعتبار أنه "الحزب الحاكم" من دون تخويل أو ولاية، اللهم تلك الصلاحية السياسية التي تسبغها عليه إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهما.


أما المجلس الوطني الفلسطيني، فكان بمثابة الهيئة التشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى أن تأسست السلطة الفلسطينية في العام 1994. ومدعومة من الصناديق والمنح الدولية، تشكلت السلطة الفلسطينية في البداية كوسيلة لتحقيق غاية، هي خوض مفاوضات "الوضع النهائي" وقيام دولة فلسطينية. وبدلاً من ذلك، أصبحت هي الوضع الراهن في حد ذاتها، وحلَّت مؤسساتها التي تعكس إلى حد كبير المصالح السياسية لفرع مخصوص داخل حركة فتح، محل منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني، إلى جانب جميع المؤسسات الأخرى التي كانت تعبر عن درجة ما من الديمقراطية والشمولية.


مهما كانت بنية منظمة التحرير الفلسطينية التي ظلت قائمة بشكل رمزي بعد انقلاب السلطة الفلسطينية الناعم عليها، فقد أصبحت الآن مجرد خاتم مطاطي يصادق على قرارات السلطة، والذي لا يعكس فقط رغبات طرف واحد، حركة فتح (التي فقدت أغلبيتها بين الفلسطينيين في العام 2006)، وإنما رغبات مجموعة نخبوية ثرية صغيرة في داخل ما كانت ذات مرة حركة نضالية رائدة. وبإحدى الطرق، يتمثل دور عباس الحالي إلى حد كبير في خدمة مصلحة هذه المجموعة، فيما يتعارض مع مهمة رسم طريق التحرير للفلسطينيين جميعاً، سواء في الوطن أو في مخيمات اللاجئين في الشتات.


ليس هناك شيء أكثر كشفاً بخصوص مهمة عباس الحقيقية على رأس السلطة الفلسطينية مما أعلنه في خطابه المذكور يوم 31 كانون الأول (ديسمبر)؛ حيث استبعد تماماً خيار تفكيك السلطة الفلسطينية -الآن بعد أن فشلت في مهمتها، وفي حين أن هناك هيكلاً سياسياً مفصلاً وموجوداً بالفعل لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو قادر على الحلول محل السلطة. ولكن عباس يصف السلطة الفلسطينية -بغرابة- بأنها من أعظم الإنجازات التي تحققت للشعب الفلسطيني.


أقول "بغرابة" لأن السلطة الفلسطينية كانت نتاجاً لـ"عملية سلام" أوسلو الميتة الآن، التي تفاوض عليها عباس وبضعة أشخاص قليلين آخرين سراً مع إسرائيل، بناء على طلب من قائد فتح، الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وقد تأسست المبادرة برمتها على السرية والخداع، وتم توقيعها من دون أخذ الشعب الفلسطيني في الاعتبار. والأسوأ أنه عندما حاول الفلسطينيون التصويت لتحدي الوضع القائم الذي رتبته أوسلو، تجاهلت فتح نتائج الانتخابات، وهو ما أدى إلى قيام حرب أهلية في العام 2007، والتي قتل فيها المئات من الفلسطينيين.


ولكن، بعيداً عن الهفوات التاريخية لعباس الذي أصبح الآن في الثمانين من عمره، فإن كلماته -ولو أنها قصدت إلى تطمين أتباعه- إنما كانت في الحقيقة تذكرة صارخة بأن الشعب الفلسطيني، الذي يعيش انتفاضة عنيفة منذ تشرين الأول (أكتوبر)، هو عملياً بلا قيادة.


بينما شرح عباس في خطابه المذكور أن السبب وراء "الهبة" -في إشارة إلى الانتفاضة الحالية- هو انتهاكات إسرائيل المستمرة والمستوطنات غير القانونية، فإنه فشل في تأييد الانتفاضة أو التصرف باعتباره قائداً لهذه التعبئة الوطنية. وهو يحاول بثبات الإمساك بالعصا من المنتصف حتى لا يجلب على نفسه غضب شعبه ولا غضب إسرائيل.


مثل سياسي ماكر، يحاول عباس أيضاً جني فوائد متعددة؛ حيث يصطف مع الناس في بعض الأوقات، كما لو أنه قائد ثوري، ليذكر إسرائيل والولايات المتحدة بأهميته كشخص يمثل الاتجاه غير العنيف في السياسة الفلسطينية، ويركب موجة الانتفاضة حتى يستعاد النظام القديم. وفي الحقيقية، فإن علامات ذلك النظام القديم -المفاوضات غير المنتهية- ما تزال حاضرة. وقد أعلن كبير مفاوضي السلطة الفلسطينية، صائب عريقات، مؤخراً، أن المحادثات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ما تزال قائمة، في بشارة قاتمة في وقت تمس فيه حاجة الفلسطينيين إلى عملية إصلاح كامل لنهجهم الفاشل في السياسة والتحرر الوطني.


مع ذلك، تبقى المشكلة أكبر كثيراً من محمود عباس. وتبقى ظاهرة اختزال الفشل الفلسطيني في شخصية فرد واحد متجذرة عميقاً في معظم التحليلات السياسية المتصلة بفلسطين منذ العديد من السنوات. (ويجري التعبير عن ذلك في حقيقة الأمر في الإعلام الغربي أكثر من العربي). ولكن، للأسف، بمجرد أن لا يعود عباس العجوز في المشهد السياسي، فإن المرجح هو أن تستمر المشكلة، إذا لم تتم معالجتها.


في حين أن فتح قدمت إسهامات ملحوظة في المقاومة الفلسطينية، فإن أعظم إنجازاتها كان تحرير القضية الفلسطينية، بالقدر المتاح عملياً، من قيود واستغلالات السياسة العربية. وهو ما جاء بفضل ذلك الجيل من القادة الفلسطينيين الشبان، الذين ضموا أيضاً قادة الجبهة الشعبية والمجموعات الاشتراكية الأخرى، والذين شكلوا ذات مرة برنامجاً فلسطينياً موحداً نسبياً، والذي مثل فعلاً درجة من الأولويات والأهداف الفلسطينية.


لكن تلك الوحدة النسبية تمزقت بين الفصائلية والتحزب الفلسطيني: في داخل منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، ثم خارج المنظمة، تحولت الجماعات وما تفرع منها إلى مجموعة من الاتجاهات الإيديولوجية، والكثير منها ممولة من الأنظمة العربية التي استغلت النضال الفلسطيني لخدمة أجنداتها المحلية والإقليمية. وأعقب ذلك فصل طويل ومأساوي من الانهيار الوطني. وعندما نُفيت المقاومة الفلسطينية من لبنان في العام 1982، في أعقاب الغزو الإسرائيلي لذلك البلد، كان يحكم منظمة التحرير الفلسطيني وكل مؤسساتها حزب واحد. وأصبحت فتح، بحلول ذلك الوقت، أكبر سناً وأكثر فساداً، وتعمل في مدارات جغرافية بعيدة عن فلسطين. وهيمنت على منظمة التحرير التي أصبحت، في ذلك الوقت، هيئة غارقة في القبائلية السياسية والفساد المالي.


صحيح أن عباس يظل شخصية أساسية في الفصل المؤسف الذي أفضى إلى فشل أوسلو الذريع في 1993؛ ومع ذلك، فإن الثقافة السياسية المتنامية التي اعتنقها جزئياً سوف تستمر في العمل، مستقلة عن تطلعات الشعب الفلسطيني، مع وجود عباس أو من دونه.


إنها هذه الفئة، التي تُغذى بالأموال الأميركية-الغربية والتي تخصها إسرائيل بالامتيازات وتتسامح معها بسعادة، هي التي يجب أن يواجهها الفلسطينيون بأنفسهم إذا كانوا لينالوا فرصة حقيقية لاستعادة أهدافهم الوطنية مرة أخرى.
المقولة الحالية التي يرددها البعض بأن انتفاضة اليوم قد حلت محل السلطة الفلسطينية، هي هراء محض. لا تعبئة شعبية لديها فرصة في النجاح إذا عرقلتها مجموعة قوية مثل أولئك الذين يستثمرون في السلطة الفلسطينية، والذين توحدهم جميعاً قاطرة كبيرة من المصلحة الذاتية.


بالإضافة إلى ذلك، يشكل انتظار أن ينطق عباس برسالة أقوى وأكثر إقناعاً مضيعة للوقت أيضاً، بما أن العلة ليست في استخدام عباس للمفردات، بقدر ما هي رفض جماعته التنازل عن بوصة من امتيازاتهم غير المستحقة، من أجل فتح مجال لبيئة أكثر ديمقراطية -حيث يتسنى لكل الفلسطينيين، من العلمانيين، والإسلاميين والاشتراكيين، الاضطلاع بأدوار متساوية في النضال من أجل فلسطين.


ربما تكون نقطة البداية قيام قيادة موحدة في الأراضي المحتلة، والتي تدير الانتفاضة خارج حدود الفصائل، إلى جانب طرح رؤية لإصلاح مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح أكثر شمولية، وبحيث تجلب كل الفلسطينيين، في كل مكان، معاً.


سوف يغادر عباس المشهد السياسي قريباً، بسبب انقلاب داخلي في فتح، أو كنتيجة لسنه المتقدمة. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن ترك مستقبل فلسطين لأتباعه، ليديروه على النحو الذي يرونه مناسباً لحماية مصالحهم الخاصة. إن مستقبل أمة بأكملها هو الآن على المحك.

 

 

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Palestine after Abbas: The Future of a People at Stake