الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

لكي تصبح القراءة وظيفة حياتية أساسية

2014-03-18 00:00:00
لكي تصبح القراءة وظيفة حياتية أساسية
صورة ارشيفية

الحدث - د. رزان إبراهيم - جامعة البترا

إن كنا على يقين بأن واحداً من مستويات تقدم الشعوب يقاس بمعدلات قراءة رآها كثيرون مؤشراً هاماً على عملية  اندماج هؤلاء الشعوب بمجتمعاتهم، فإن هذا يشكل دافعاً ومحرضاً قوياً للتفكير ملياً في طلبة جامعيين يصيبني الواحد منهم بمقتل حين يعترف بأنه لم يقرأ من قبل كتاباً واحداً. ولكم أن تتخيلوا الصعوبة التي يواجهها مدرس لمادة يقتضي اجتيازها قراءة مفتوحة تخرج عما مورس من قراءة محدودة في إطار منهج دراسي لم يعرف الطلاب سواه مصدراً للمعلومة أو التثقف. وأراني هنا واقفة قبالة ظاهرة تستحق مراجعة تأملية عميقة توصلنا إلى التعرف على أولئك الذين يتحملون مسؤولية هذا المشهد القرائي البائس. 

أقول هذا وفي ذهني أن جزءاً كبيراً من ضعف التحصيل المعرفي الجامعي لدى هؤلاء ناجم عن علاقة رفض مبدئية لفكرة قراءة يرونها مضيعة لوقت ثمين يمكن تمضيته بتسلية سهلة لا تكلف جهداً يُذكر. وهو ما فتئنا شهوداً على آثاره المدمرة المتتالية على أكثر من صعيد مجتمعي ونفسي وحضاري على المجتمع برمته. وفي ظني أن ركوداً ثقافياً سائداً بعلامات لا تخطئها العين يقتضي بالضرورة سلسلة من تساؤلات تتحلق حول مؤسسات يُفترض فيها دوراً فاعلاً في تطوير وعي جديد قبالة ما يستجد من أحداث على أكثر من صعيد. لذلك أجدني منذ مدة منشغلة بالبحث عن رؤية نافذة لمستقبل القراءة في مجتمعاتنا العربية، بما يدفعني في كثير من الأحيان إلى التفكر في مناهج أكاديمية مأزومة ساهمت إلى حد كبير فيما نحن فيه، بما قد يكون مفتاحاً أولياً هاماً تُفتح فيه مغاليق قضية أهملت زمناً طويلاً. 

إن كانت الذات أصلاً أساسياً يتم استثماره في مواطن متعددة في حياتنا على صعيد المنتج الاستهلاكي بكل أنواعه، فما أحرانا أن نجعل من القراءة فعلاً تأسيسياً تُستغل فيه هذه الخاصية للتأكيد على دور ممكن لقراءة فاعلة تعمل على تفعيل الذات وتعزيزها. وهو أمر تنبه إليه في الستينيات في الغرب باحثون شباب أعملوا فكرهم للاستدلال على بدائل منهجية ممكنة بدلاً من تلك العتيقة لزملاء لهم أكبر منهم عمراً، الأمر الذي قادهم لانغماس عميق في ظاهرة ( سوسيولوجيا الذائقة)، بمعنى تدقيق البحث في اهتمامات سوسيولوجية شائعة تكمن أهميتها الحقيقية في جعلها مثيراً استراتيجياً منبهاً إلى ذائقة معينة في المجتمعات الحاضرة، فما كان يًقرأ في زمن معين له بالضرورة أسئلته المناخية والثقافية المعينة المتوائمة وأزمان معينة، لم يعد كذلك في زمن آخر له سياقاته المختلفة. ومن هنا تأتي أهمية بحث جاد يكشف هذه الذائقة، ويعمل في الوقت ذاته على تفعيل مجموع القوى العاملة في المدارس والجامعات وحتى محلات الكتب والناشرين، لاستثمار هذه المعرفة، وربما العمل في اتجاه آخر بوسائل وحيل خاصة لتفعيل الذائقة الجمعية للبشر وربما تشكيلها نحو وجهة معينة هدفها الصالح العام للمجتمعات.

ولا أظنني تجاوزت واقعاً ممكناً لو توجهت إلى أفراد من مجموعة مهيمنة في العملية التعليمية، أسألها اعتماد مرتكزات نظرية التلقي والإفادة منها لتفعيل فكرة إيجابية عن الذات تسمح لطلابنا ممن نضع النصوص أمامهم أن يطلقوا العنان لذواتهم، بما يجعل المعنى ناجماً عن عقل الواحد منهم بعيداً عن مركزية اعتادوا عليها في مؤسسات تعليمية تفرض وجود معنى واحد ومهيمن مرتبط بقصدية المؤلف، أو حتى الشارح (الأستاذ) لكل ما يقرأون. لذلك يكون من الأهمية بمكان إطلاق العنان للطالب كي يحدد احتمالات المعنى بما هو موجود في نفسيته أولاً، ليكون هو كما المؤلف منشئاً آخر للنص، بما يعزز شعوراً بالذات هو بحاجة ماسة إليه في مجتمع بالكاد يعزز هذه الذات ويعتني بها. 

ومن هنا أقول لكل من هو معني بتفعيل القراءة لدى جيل اليوم: اختر له من النصوص ما يتوافق بأحوال وعلاقات اجتماعية يعيش هذا الجيل في إسارها. ومن ثم دعه يحس بأن الكتاب ملجأ روحي له وقت الحاجة، ومن ثم أعطه الفرصة كي يحكي ذاته وينقد حتى أكبر الشعراء والأدباء، بعيداً عن أمر قاطع صارم بالإعجاب بفلان بتأثير من حماس الآخرين له. الأمر الذي سيخلف بالضرورة جيلاً مستقلاً في رأيه عن الآخرين، غير محكوم بقوة موروث اجتماعي لا يسمح له بأي تقديم منفرد. أقول هذا وأنا على وعي تام بأن هذا الطالب أو ذاك قد لا يكون في مراحل مبكرة مؤهلاً على النحو الذي نرتجيه، لكن حذار من تسخيفه أو التعريض به إن أتى بما لا يتوافق والفكرة التي نريد. ولنذكر جيداً أن جزءاً كبيراً من العملية التعليمية الحديثة بات رافضاً لفكرة إعادة بنى محددة بعينها، وأن اتجاهاً معاصراً بات شعاره (أنف من المعايير ما لا يستحق أن يستمر، واسع إلى مواجهة المألوف منها بعين ثاقبة) ودع هذا الطالب أو ذاك يرى متعته في أدب مثمر يمارس ألاعيب جديدة تتحقق من خلالها متعة وإثارة فريدة من نوعها. 

ولنقل لطلابنا: مارسوا مع قراءاتكم عملية تتوافق مع ثيمة الهوية التي تميز كل واحد منكم، واستخدموا ما تقرأون على نحو يرمز إليكم ويكرر نفسياتكم في نهاية المطاف، ولا ضرر إن رغبتم في إعادة صياغة ما تقرأون من أدب معبرين عن استراتيجيات خاصة تميز الواحد منكم. صحيح أن العملية التعليمية تبقى مشدودة إلى أدوات نقدية جادة، إلا أن هذا لا يكون حائلاً دون تحفيز قارئ غض على إطلاق العنان لحدس نساعده فيما بعد على تأكيده أو نفيه، فأنا ما زلت من أولئك المؤمنين بمفعول ارتجالي نترك فيه للطالب الفرصة إما لتداركه أو تثبيته فيما بعد. وأؤمن على نحو راسخ أن قارئاً يقع تحت وطأة إيديولوجية معينة تفرض نفسها عليه، مآله أن يكون جزءاَ لا يتجزأ من نماذج بشرية مستهلكة تفرض عليه القيم فرضاً ليكون محروماً حتى من حق المساءلة. 

إن أخذنا ما سلف بعين الاعتبار وكانت لنا رؤيتنا الصادقة والثاقبة نعملها في إطار من عمل جدي ذكي يدرس الذائقة ويخاطبها على النحو الذي تستحقه، ففي ظني أن هذه هي خطوة جادة باتجاه طريق سوي نحو قراءة منتجة إيجابية انحرفنا عنها طويلاً.