الحدث - آيات يغمور
هي الأكثر مذلة، وقفة قد تطول أو تقصر، وقفةً على الحواجز، تعتمد مدتها على مزاجية جندي نراه من وراء لوح زجاجي، دون أن نلتقط ملامحه كاملةً، وهو يلوح بيديه حيناً، ويصرخ أحياناً، ويقطب حاجبيه في غالب الأوقات، لتكون النتيجة تفتيشاً لا طائل من ورائه، الهدف واضح.. الإذلال.
ومن المتعارف عليه أن يترصد جنود الاحتلال الشبان المقدسيين، فيعملون على استفزازهم بشكل أو بآخر، لكن في الآونة الأخيرة كان للفتيات نصيبهن من هذه المعاملة المشينة، وخاصة من قبل مجندات هدفهن الأول والأخير تعكير صفو المزاج وتضييع أوقات المقدسيين، في محاولة لجعلهم يعزفون عن الوصول إلى رام الله.
فتيات مقدسيات توجهت إليهن "الحدث" لسماع المواقف المذلة التي يتعرضن لها بشكل يومي على الحواجز العسكرية.
يومياً أمر على هذا الحاجز اللعين، حاجز قلنديا الذي بات كابوساً لا مفر منه، فأنا أعمل في "كفر عقب"، وأسكن في القدس.
بدأت معاناتي تشتد عندما أصبحت حاملاً، فأحضرت ورقة من الطبيب لمنع نزولي من الحافلات المقدسية التي تمر عن الحاجز دون أن اضطر للنزول والمرور من خلال آلة التفتيش المليئة بالإشعاعات الضارة والتي تملك تأثيراً سلبياً على الجنين.
لكن المشكلة، أنني أمتلك جسماً نحيفاً، فلم يبرز الحمل بالشكل الذي يثبت صدق حملي، أو هكذا أرادت المجندات أن يتظاهرن، فقد أصرت إحداهن على أنني أكذب وبأن الورقة مزيفة، وبأن الحمل لا أساس له من الصحة.
وتمادياً في الإذلال، كانت إحداهن تأخذني إلى آخر الباص، لترى حجم الحمل وصحته لأكشف لها عن معدتي وهو ما كنت أرفضه قطعياً.
هي الأزمة الدائمة واليومية، كنت قد أخرجت بطاقة هويتي، وطبعاً كنت أرتدي نظاراتي الشمسية، فوضعتهم جانباً، سحبت المجندة هويتي بشدة متعمدة.. وبعد انتهائها من تفحصها بطريقتها المستفزة، مدت يدها لتعطني إياها..فسحبتها بدوري بشدة أنا الأخرى كنوع من الانتقام لفعلها، فكانت النتيجة أن تتم مقاصصتي كطفلة تلميذة في صفها الابتدائي، 25 دقيقة من الانتظار كعقاب.
هي ابنتي التي لم تتجاوز الخمسة أشهر، كنت قد وضعتها في مقعدها الخاص في مركبتنا الخاصة، ليفتح الجندي الإسرائيلي باب السيارة ويبدأ بالتفتيش من فوقها وتحتها وحولها بطريقة مضحكة! فهي الرضيعة التي قامت بالبصق على هذا الجندي الذي على ما يبدو أنه استطاع استفزازها وجعلها تشعر بضرورة الرد على هذا التعامل المذل!
في هذا الصف الطويل، وقفت وأطفالي من حولي ننتظر أن يأتي الفرج ويحين موعد تفتيشنا لنستطيع دخول القدس والعودة إلى المنزل بسلام!
ولأن الوقت في مثل هذه الأوقات، يمر ببطئ شديد، ولا يستطيع الأطفال أن يمضوا هذه المدة الطويلة المملة دون لعبة تكسر الملل وتنسيهم تعب الطريق وذل الحواجز، فإني كنت أحرص دوماً على أن يكون معي لعبة.
هو "فرد" المياه أو حتى الخرز، لا أذكر بالضبط.. لكن الجنود حينها أعلنوا حالة الاستنفار، وأنا أصرخ وأنداي، لعبة أولادي! والناس من حولي يقولون لي اهدأي يا هذه، وإذ بأحدهم يقترب غاضباً، بنبرة تهديد واضحة لا لُبس فيها.. في المرة القادمة سنطلق عليك بالرصاص حتى وإن كانت مجرد لعبة! ومنذ ذلك الحين لا ألعاباً "عنيفة" مسموحة في البيت أو السيارة أو حتى في الشوارع العامة.
على حاجز زعيم العسكري، المعروف بعدم تدقيقه المكثف في الهويات، رفعت بطاقة هويتي، إلا في ذلك اليوم المشؤوم، الذي كان برعاية جندي مجنون هائج، ينتظر أن ترفع الفتيات بطاقاتهن ثم يقمن بإنزالها والمرور بالسيارة، ليبدأ بنوبة هلع وصراخ، مرجعا السيارة وكأنها خطر على الأمن الإسرائيلي، مع أنه يعلم ورأى، أن الهوية ليست مزيفة وأن السيارة تم فحصها.
لأن دراستي الجامعية اقتضت أن أكون دائمة الذهاب إلى رام الله، فالمواقف التي تعرضت لها على حاجز قلنديا لا تعد ولا تحصى، وخاصة مع الفتيات المحجبات، اللواتي يرتدين دبابيساً مثبتة للحجاب، والذي دائم الزن والرن في المكانات إياها، فتأتي تلك المجندة وترافقنا على حدى، في غرفة التفتيش الخاصة التي يصبح فيها التفتيش على مستوى آخر، أكثر دقة وأخف ملابساً وأكثر إذلالاً.
أدوات التجميل، هي المفاجأة، تصبح المجندة ترى قلم أحمر الشفاه لأول مرة في حياتها، ولا تدري لماذا يستعمل مبرد الأظافر، المبرد الذي تسميه سلاحا، اتركه لها وأرحل، لعله يفيدها فلا تنشب أظافرها في كرامتنا.