السبت  04 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الإعلام والتَّماثُل الجماعي والتَّناظر الإدراكي وسلوك القطيع!!"/بقلم: رائد دحبور

2016-03-15 10:20:41 AM
رائد دحبور

 

بقلم: رائد دحبور

يتمُّ استخدامُ جُملَةً من التِّقنيَّات والمؤثِّرات الحديثة المتطوِّرة في مجال وسائل الإعلام في سبيلِ تأطير وصياغة وتوجيه الوعي الجماعي لخدمَةِ أهدافٍ معيَّنة، عن طريق استغلال بعض الخاصيَّات اللَّصيقة بطبيعة الفَرْدِ، بما هو كائِنٌ يستجيبُ للمؤثِّرات على نحوٍ منهجيّ خاص في بيئة العيش الجماعي وما تفرضه من مفاهيم ومُحدِّداتٍ وشروط.

ومن الأمثلَةِ على ذلك محاولة استغلال خاصيَّة التَّماثل الجماعي والتَّناظر الإدراكي وقابليَّة الانتظام بما يُمْكِننا تسميته سلوك القطيع.

نقصِدُ بالتَّماثل الجماعي ذلك النَّوع من السُّلوك الانفعالي والحركي، الانتقال من وضع إلى آخر، المتشابه المتناسق لدى الأفراد ضمن المجموعات في ظرفٍ ما، وضمن شروطٍ معيَّنة، بما في ذلك ردود الأفعال تجاه المؤثِّرات والمواقف، والقائم في الأساس على قاعدة تقليد الفرد للسلوك والحركات والامتثال للإجراءِات الجماعيَّة من حوله.

ونقصِدُ بالتَّناظر الإدراكي أو العقلي، ذلك النَّوع من إدراك المؤثِّرات والتَّفاعل الحسِّي والانفعالي معها على نسَقٍ واحدٍ قائمٍ على التَّقليد في منهجيَّةِ التَّفكير واتِّجاهاتِه، بما يَتبع ذلك من القيام بردودِ أفعالٍ متشابهة وتأدية حركات متناظرة متناسقة بفعلِ استجابة الدِّماغ والعقل للمؤثّرِات الحسيَّة من حوله في إطار الامتثال القائم عل التَّقليد.

ونقصدُ بسلوك القطيع، ذلك النَّوع من السُّلوك الإمتثالي وأداء الحركات الَّتي تُمليها على الفرد اتِّجاهات حركة المجموعة من حوله بقيادةِ فردٍ أو مجموعة أفراد في مُقدِّمة القطيع بحيث يختصُّون بمزايا متفوِّقة لأسبابٍ بيولوجيَّة أو معياريَّة محدَّدة يتمُّ التَّوافق الجماعي حولها إِذْ تفرِضُها طبيعة خصائص النَّوع أو بيئته الحيويَّة الخاصَّة.

فكيفَ إِذَنْ تتكوَّنُ قواعد سلوك التَّقليد الجماعي الَّتي تُعدُّ جوهر مفهوم التَّماثل الاجتماعي في الأساس، فيما يتصل بالمجموعات البشريَّة تحديداً؟ وكيف يتمُّ بناءُ المنظومات الثَّقافيَّة الموحَّدة الَّتي تقضي بتحديد زاوية الرُّؤية وتكوين وجهات النَّظر الموحَّدة حيال الأشياء والظَّواهر؟ والتأثُّر الانفعالي تجاهها والَّتي تتجلَّى على هيئةِ سلوكٍ جماعي انفعاليٍّ مُتناسقٍ منسَجِمٍ من حيثِ المنطلقات النَّظريَّة والدَّوافع السُّلوكيَّة، الواعية أو الغرائزيَّة على حدٍّ سواء فيما يتَّصلُ تحديداً وعموماً بسلوك الحيوانات وجزئياً وأحياناً بسلوك الإنسان، وكذلك من حيث المُحدِّدات القيِميَّة أو المعياريَّة والغايات، وما علاقة ذلك بمفهوم ما أطلقنا عليه تسمية التَّناظر العقلي أو الإدراكي في مستوياته المختلفة والَّذي يُعدُّ الدَّافعُ والمؤطِّرُ الأساسي لتشابه السُّلوك لدى الأفراد ضمن الجماعات في مناخٍ جماعيٍ محدَّد وضمن ظروفٍ وشروطٍ معيَّنة، وتحتَ تأثيرِ مؤثِّراتٍ ذات طبيعة خاصَّة، بما في ذلك ما تُمليه البيئة المزاجيَّة الجماعيَّة بشكلٍ عام على سلوك الأفراد، حتَّى على مستوى المجموعات من أصناف المخلوقات العديدة المُتنَوِّعة من غير البشر حتَّى؟!

من المُلاحَظ أنَّ التَّقليد والتَّماثل والتَّشابه هو الصفة الغالبة على سلوك الأفراد ضمن المجموعات، نجد ذلك جليَّاً، وعلى سبيل المثال، في طبيعةِ تشكيل واتِّجاه حركة أسراب الطيور المهاجرة، أو في طبيعةِ تشكيل وحركة مجموعات الأسماك المتنقِّلة عبر البحار والمحيطات، وكذلك لدى قطعان الأصناف المتعدِّدة للحيوانات في الغابات أثناءَ حركتِها الدَّائبة بحثاً عن مصادر الغذاء أو طلباً للأمان حيال التهديدات الطبيعيَّة المناخيَّة أو حيال تهديدات غيرها من الأصناف والمجموعات الحيوانيَّة لها.

لا شك أنَّ المحدد الأساسي لسلوك القطيع هو التَّناظر الإدراكي، ضمن مستوياتٍ خاصَّة بذلك الإدراك الغريزي لدى النَّوع، للحاجات والمخاطر الَّتي تعنيه.

تنزِعُ الثَّقافات الإنسانيَّة منذ القِدَمْ، وعلى أساسٍ إنكاريٍّ، في العموم إلى نفي صفة وخاصيَّة سلوك القطيع القائم على أساسِ التَّناظر العقلي الإدراكي عن جماعاتِها، فيما تؤكِّدُ وقائع ومنهجيَّة وتلقائيَّة سلوك الأفراد المُنْسَاقُ ضمن تيَّار حركة الجماعات العام في كثيرٍ من المواقف على ذلك. بل إنَّ كثيراً من الأنظمة الَّتي تؤطِّرُ السُّلوكَ والحركة الجماعيَّة تقوم في الأساسِ على استخدام آليَّةِ عمل وتأثيرات التَّناظر العقلي الانفعالي. ومثالُ ذلك، جزئيَّاً، هو آليَّة الانتظام ضمن الطَّوابير المدرسيَّة أو العسكريَّة، تماماً بما يشبه انتظام واتِّساقات الحركة واتِّجاهاتها لدى أسراب الطُّيور.

ويَتَّخِذُ الإعلام وأدواته التِّقنيَّة المتطوِّرة الآن من هذه الخاصيَّة إحدى وسائله إلى تأطير الوعي الجماعي، وإيجاد الجوِّ الانفعالي تجاه ظواهر معيَّنة أو أحداثٍ معيَّنة في خدمةِ وتبرير السِّياسات العامَّة أو تسويغ وتعميم بعض المواقف الخاصَّة. وهو سلوكٌ نزَعَتْ إليه البنى الفوقيَّة للمجتمعات البشريَّة منذ أنْ انْتَظَمت تلك المجتمعات ضِمْنَ الأشكال المختلفة لأنماطِ ممارسةِ السُّلطة ونظريَّاتِها المسوِّغة لضرورة تلقليدِ واتِّباع القوى الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة في المجتمعات والَّتي تُمثِّلُها البُنى الطَّبقيَّة الفوقيَّة على الطَّبقات الأدنى.

للأسف، فإنَّنا نَجِدُ كثيراً من وسائل الإعلام الآنْ، ومع تطوُّر المؤثِّرات التِّقنيَّة المتطوِّرة لوسائل الدِّعاية والإعلام أو الميديا وقدرتها على ممارسة الخداع والتَّضليل وتمويه الطَّبيعة الحقيقيَّة للوقائع،  تَتَّجهُ نحو محاولةِ إشاعة ثقافة وسلوك القطيع لدى الجمهور المُسْتَهْدَف، تلك الثَّقافة وذلك السُّلوك القائمانِ على أساس التَّماثل والامتثال الجماعي، وعلى قاعدةِ آليَّة مؤثِّرات التَّناظر العقلي والإدراكي على أساسٍ نمطيٍّ ستاتيكيٍّ ثابت.

وتبدو محاولة تعميم بعض المفاهيم السِّياسيَّة والمذهبيَّة، والَّتي في الغالب ليس لها واقع، من قبَلِ وسائل الدِّعاية والإعلام الخاصَّة ببعض جهات النُّفوذ الفعلي والمعياري مثالاً صارِخاً على ذلك!!