الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"أفكارٌ فرنسيَّة أنيقة، وماكينة ابتزاز إسرائيليَّة فائقة الأداء" / بقلم: رائد دحبور

2016-05-24 10:37:25 AM
رائد دحبور

 

لَمْ يتسَنَّ للأفكار الفرنسيَّة الخاصَّة بإعادة إحياء مومياء عمليَّة السَّلام أنْ تنجح من خلال تقديم إكسير العودة للمفاوضات المباشرة - عبرَ الكأس الفرنسيَّة الأنيقة هذه المرَّة - بجداول زمنيَّة معيَّنة ووفقَ آليَّاتٍ تضمن إمكانيَّة تجاوز الأمتار الصَّعبة الأخيرة الَّتي توقَّفت عندها المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي – حسب تعبير المبعوث الفرنسي بيير فيرمونت – وضِمْنَ مؤتمر دولي أو دعم ورعاية مجموعة دوليَّة لذلك أو من خلال رعاية أعضاء مجلس الأمن لها بوجودِ آلِيَّة يتم التَّفاهم والاتفاق حولها بين جميع الأطراف، وذلك هو جوهر الأفكار الفرنسيَّة الَّتي حملها المبعوث الفرنسي للمنطقة " بيير فيرمونت " في آذار من هذا العام، لم يتسَنَّ لتلك الأفكار إذنْ أنْ تتحوَّلَ إلى مبادرة فرنسيَّة مُكْتَملة الأركان، برغم القبول والتَّرحيب الفلسطيني بها؛ وذلك بسبب خضوعها لعمليَّة إعادة تدوير الأفكار في ماكينَة الابتزاز الإسرائيلي فائقة الأداء كما هو معهود دوماً. فها هو الرَّئيس الفرنسي يُعلِنُ قبل أيَّام عن تجميد بحث تلك الأفكار، وذلك ربَّما حتَّى يقضي " نتنياهو " وتوليفاتِه الحكوميَّة وسياساتِه المتدحرِجة نحو مزيدٍ من تغيير الوقائع على الأرض أمراً كان أو سيكون مفعولاً.

المسألة فيما يتعلَّق بالتَّعامل الإسرائيلي تاريخيَّاً مع الأفكار الخاصَّة بالقضيَّة الفلسطينيَّة غاية في البساطة، كما هي مركَّبة معقَّدة في آنٍ معاً، مع الأخذ بالاعتبار أنَّ قضيَّة الشَّعب الفلسطيني كانت رهينةً بيدِ إسرائيل والقوى الدَّاعمة لها منذ البداية.

فمن جانبٍ أوَّل تبدو تلك المسألة غاية في البساطة، لأَنَّ من يملك وسائل وحقائق القوَّة على الأرض ويحتفِظ بالرَّهينة هو الأقدر على فرض الشُّروط واستخدام آليَّات الابتزاز، ومن جانبٍ آخر تبدو المسالة مركَّبة؛ لأَنَّ مَنْ يدرك دوافع القوى الدَّوليَّة ويدرك أهميَّته ووزنه النَّوعي بالنِّسبة لها هو الأقدر على ترتيب خطواته وتَوْضيبِ ردوده وردود أفعاله ببرودٍ ودون انفعاليَّة، وهكذا كان سياق التَّفاعل الإسرائيلي مع رُكام الأفكار الدَّولية التي طُرِحَت عبر عشرات السِّنين، منذ أفكار روجرز في ستينيَّات القرن الماضي مروراً بـ هنري كيسنجر في حقبة السَّبعينيَّات ورونالد ريغان في الثَّمانينيَّات وجيمس بيكر في التِّسعينيَّات ولا ننسى المبادرات العربيَّة ووصولاً وليس انتهاءً بالأفكار الفرنسيَّة الأخيرة.

فما الَّذي يدفع فرنسا إلى طرح أفكارها تلك في هذا الوقت بالذَّات؛ غير إدراكها لأهميَّة استغلال واستخدام الأوضاع المُزرية للرَّهينة الإسرائيليَّة الأكثر إثارة والمتمثِّلة بالقضية الفلسطينيَّة – وإنْ بدا الاهتمام بها نادراً في الوقت الرَّاهن بشكلٍ لافتْ لكنَّه مؤقَّتٌ  بطبيعة الحال على الأغلب – ما الَّذي يدفع بفرنسا غير محاولة استثمار أوضاع تلك الرَّهينة في سبيلِ حجز مقعدٍ لها على مسرح السِّياسة الدَّوليَّة في منطقة الشَّرق الأوسط والشَّرق الأدنى وفي المنطقة العربيَّة ومن خلالِها - وهي الَّتي تراودها كما غيرها من القوى أحلامٌ إمبراطوريَّة - وذلك في ظلِّ بيئة التَّنافس الإستراتيجي الرَّاهنة عبر التَّفاهمات والتَّقاطُعات وحتَّى التَّحالُفات بين القوى الدَّوليَّة والإقليميَّة في كثيرٍ من ساحات الشَّرق والسَّاحات العربية المشتعلة وفي ساحات المنطقة من تركيا شمالاً وحتَّى أكثر المناطق تخلُّفاً وفقراً في اليمن جنوباً، ومن أقاصي شرق الرَّافدين وحتَّى عمق الصَّحراء الليبيَّة غرباً.

لقد كانتْ ماكينة الابتزاز السِّياسي والاستراتيجي الإسرائيليَّة فعَّالة وفائقة الأداء، وذلك منذ التَّنافس بين آيزنهاور وهاري ترومان في انتخابات عام 1949 في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وليس انتهاءً بالتَّنافس الجاري الآن بين دونالد ترامب  و هيلاري كلينتون على الجلوس في المكتب البيضاوي، ومنذ اللقاء الَّذي جمع مبعوث الملك السُّعودي فيصل في مطلع عام 1973 في مقر الخارجية البريطانية في لندن مع السِّير ولْيم وزير خارجة بريطانيا آنذاك – بحسب ما يروي ميشيل كلارك في روايته السِّياسيَّة الشَّهيرة " بخشيش " – وأعلَنَ فيها مبعوث الملك للسِّير وِلْيَمْ أنَّ الملك فيصل قرَّرَ بعد اليوم مغادرة سياسة عدم مزج النِّفط بالسِّياسة، والرَّد الصَّريح الّذي تلقَّاهُ مبعوث الملك من وزير خارجية بريطانيا وقتها والقاضي بالقول: " في حال اندلاع النِّزاع المُسلَّح في الشَّرق الأوسط لا ينبغي لكم، أنتم العرب، أنْ تَتَوَقَّعوا أنْ نقفَ أو يقف الغرب إلى جانِبِكُم عِوضاً عن وقوفِنا إلى جانبِ أعدائكم ".

ومنذ اللِّقاء الأوَّل الَّذي جمع الرَّئيس المصري أنور السَّادات في تشرين ثاني عام  1973 - في أعقاب توقيع اتِّفاق فكِّ الاشتباك على الجبهة المصرية - بوزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر في قصر الطَّاهرة في القاهرة والَّذي اشترط فيه كيسنجر على السَّادات - وللبدءِ بعمليَّةٍ سياسيَّة ترعاها أمريكا في الشَّرق الأوسط – أنْ لا يتكرَّر بعد ذلك الحين ما حصل في يوم السَّادس من أكتوبر عام 73 وأنْ لا تضغط مصر بعد اليوم أو تطلب من أحدٍ من الدُّول النِّفطيَّة أنْ يمزج السِّياسة بالنِّفط، ومروراً بشكليات التَّنافس الانتخابي وتوزيع الأدوار بين أحزاب اليسار واليمين في إسرائيل والَّذي ابتدأ بشكلٍ مثير منذ عام 1976 والمستمر حتَّى اليوم.