الأحد  12 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"قَرْنانِ من القَلَقِ والاكتئاب.. هل نحنُ مجتمعاتٌ قَلِقَة؟!"/ بقلم: رائـــد دحبـور

الجزء الأوَّل: ما هو القلق؟

2016-07-19 11:12:51 AM
رائد دحبور

 

لإنْ كانَ جُملَةٌ من الباحثين في مجال علوم النَّفس والباحثين في مجال العلوم الإجتماعيَّة، قد وصفوا القرن الماضي، القرن العشرين، عالميَّاً بِقَرْنِ القلق، فإنُّهم يصفون هذا القرن الَّذي نحنُ فيه الآن، بِقْرنِ الإكتِئاب الَّذي قاد إليه قلقُ القرن العشرين الَّذي مضى زمنيَّاً لكنَّ ظلاله الثَّقيلة المتمثِّلة بالأزمات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة لم تَزَلْ ماثلَةً حاضرة في كثيرٍ من سياقات الحاضر الرَّاهن، كما المستقبل!!

ولإنْ كانت كثيرٌ من المجتمعات على مستوى قارَّات العالم الخمس قد تجاوزت محنة القلق الجمعي والنَّخبوي حول راهنِها ومستقبلها ومصائِرها، وإنْ بقيتْ مشكلة القلق على المستوى الشَّخصي قائمة فيها وسمةً من سمات الحياة المعاصرة، إلَّا أنَّنا وكجزءٍ من المجتمعات الشَّرقيَّة، ونحن العرب والفلسطينيين بشكلٍ خاص، ما زلنا ضحايا القلق الشَّخصي والجمعي، وضحايا القلق من الحاضر وعلى المستقبل على حدٍّ سواء. 

كَيْفَ ينشأُ مُسَلْسَلُ القلَقِ وصولاً إلى تصنيف الشَّخصِيَّةُ بالشَّخصيَّة الْقَلِقَة، وكيْفَ تَنمو تلك الشَّخصيَّةِ في بنياننا الشُّعورِي والإدراكي، وتَسْتَبِدُّ ببنيانِنا العاطفي، مِمَّا يجعَلُ مِنَّا ضحايا للقلق المُزْمِن وللأرَق، وعبيداً للعواطفِ والأفكارِ المُسْتَنِدة الى المشاعر المُتَطرِّفة في سياقِ نَظْرَتِنا ومواقِفِنَا وتقييمِنا لِمُجْرَياتِ حياتِنا الشَّخْصِيَّة وللحياةِ بشكلٍ عام؟!

إنَّ حالة القلق المُزْمِن تنشأ، بالإجمالِ، نتيجةً لسيطرة المشاعِر والأحاسيس الدَّاخليَّة على آليَّةِ واتِّجاهات التفكير المنطقي، بحيث تمثِّلُ تلك المشاعرُ قاعدةً لتوليدِ الأفكار القَلِقَةِ وتَسْبِقُها وتقومُ بتوليدها وإعادة إنتاجها من جديد في مسلسلٍ لا تنتهي حلقاته، والَّتي ما أنْ تكادُ تنتهي حتَّى تبدأ من جديد.

 

إنَّ فهمَ المشكلةِ، أيَّ مشكلةٍ كانت، والإحاطة بأسبابها الجوهريَّة وبدواعيها وبِجِوانِبِها ومظاهِرِها المُخْتَلِفة يُمثِّلُ أكثر من نصف الحل، ويفتحُ المجالَ واسعاً لعلاجها. إذنْ علينا التَّدقيق جيداً بأسباب وبتفاصيل مشكلة القلق العميق المُزْمِن وفهمها على الوجه الصَّحيح، وذلك يمثِّلُ أكثر من خطوة واحدة، بل يمثِّلُ العديدَ من الخُطوات في سبيلِ علاجها.

تَفِرِضُ علينا ظروف الحياة بشكلٍ عام، وظروفنا الشَّخصيَّةِ أحياناَ على وجه الخُصوص، ومُقْتَضياتِ وشروط الحياة المدنيَّة الحديثة، ومُتَطَلَّباتها الكثيرة وتوفيرِ احتياجاتها المُتَعدِّدة، مستَوَياتٍ مُتفاوِتَةٍ من الضُّغوط الماديَّة والاجتماعيَّة والعاطفيَّة، بما فيها ضغوطِ العملِ، مِمَّا يتخِذُ مظاهرَ متَعَدِّدةٍ من الضُّغوطِ العصبيَّةِ والنَّفسيَّة، وأحد أبرز مظاهر تلك الضُّغوط يتجلَّى بالشُّعورِ بالقلق، ونشوء مسلسل القلق، ومن ثمَّ الوقوع ضحايا للأرَقِ المُزْمِنِ، مِمّاَ يحرِمُنا من النَّومِ المريح، أو حتَّى يحرِمُنا من الاستمتاعِ بما لدَيْنا من أسبابِ ودواعي السَّعادَةِ أو الرَّاحةِ، أو حتَّى من مُجَرَّدِ الاستمتاعِ بأوقاتنا بالشَّكل الصحيح.

يؤدِّي إدْمانُ القَلَقِ إلى تشكِّلِ ما يُعْرَفُ بالشَّخْصِيَّةِ الْقَلِقَةِ والتَّشاؤُميَّة ذي النَّظرَةِ السَّوْداويَّة، ويؤدِّي الى نُشوءِ مظاهرَ مُتَعَدِّدةٍ من حالاتِ الإكتِئاب بدرجاتٍ مُتَفاوِتة، والى الإغراقِ في حالاتٍ من الفوبيا، الخوف الحاد، من بعضِ الأشياءِ والظَّواهر العاديَّة، والى الوقوعِ في حالاتٍ من الوسواسِ القَهْريِّ، وهو إحْدى أهمِّ أسبابِ الشُّعور بالإضطِراباتِ النَّفسيَّةِ، وفقدان الشُّعور بالإستقرار النَّفسيِّ والعاطِفيِّ، والمُعاناةِ من بعضِ مظاهِرِ النَّرْجِسِيَّة المُرتَبِطَةِ بالإشفاقِ والخوفِ الدَّائِمِ والكبيرِ المبالغ فيه على الذَّات، والتَّعبيرِ عن ذلك بواسِطَةِ الإصرارِ على استدرارِ واستجلابِ تعاطُفِ الآخَرين، والشُّعور بالعجزِ والإحباطِ الشَّديد والإفراط بالتَّحسس الدَّائم تجاه أبسط الأمور، والشُّعور الدَّائم بالخوفِ من الفَشَل أو من المُستَقْبل.

باختِصار... إنَّهُ، أيْ إدْمانُ الْقَلَق، يُعتَبَرُ إحدى أسوأِ المداخل لوِقوعِنا في دائرَةِ العُبودَيّةِ لعواطِفِنا ومشاعِرِنا الدَّاخِليَّة، في الوقتِ الَّذي ينبغي لنا فيهِ ألَّا نكونَ عبيداً لِعَواطِفِنا المُتَطَرِّفة.

ما هو القَلَق؟؟

إنَّهُ بمثابَةِ جِهاز الإنذارِ الدَّاخلي في أدْمِغَتِنا وفي دائِرَتِنا العَصَبِيَّةِ، وفي عَقْلِنا العاطِفِيِّ والباطِن، وفي عقلِنا المنْطِقي والإدراكيِّ على حدٍّ سواء.

 

يُمْكِنُنا تصنيفُ القلقِ، بالإجمال، بأنَّهُ إحدى مظاهر إجراءَات الوِقاية الذَّاتيَّة داخلَ عقلِنا الباطن وكذلك داخل عقلنا العاطفي والإدراكي، وإحْدى حالات الدِّفاع التِّلْقائي العاطِفي والشُّعورِي تجاه احتمال الأخطار والمخاطر الَّتي قد تُحيقُ بنا في مختلف جوانب الحياة.

 

ومركزُ نشوءِ وتوَلُّدِ الشُّعور بالْقَلَقِ هو: الدَّائرةُ العصبيَّة المسؤولة عن توليد مشارع الخوف والحذر والَّتي يمكن اعتبارها بمثابة " جهاز الإنذار داخل الدِّماغ "المرتبط والموصول بالحواس الَّتي تنقل المؤثِّرات الخارجيَّة، أو المُتَّصِلُ بالإحاسيس الدَّاخِلِيَّة الَّتي تُكَثِّفُ أثر المشاعر المُتَدفِّقة بِشَكْلٍ انْفعالِيٍّ، مِمَّا يؤدِّي الى توليد الأفكار المرتبطة بالخوف والقلق، وهذا أمرٌ عادِيٌّ بل وضروريّ في سياقه الطَّبيعي وضمنَ منسوبٍ معقول ومنطقي وضروريّ.

وإنْ لمْ يكَنْ بالإمكان، بل لا ينبغي، تعطيل عمل جهاز الإنذار الدَّاخلي، بِشَكْلٍ تام، والمُتَمَثِّلِ بمشاعر الحذّرِ والخوفِ والقَلق كمشاعرٍ تُعتبَرُ في صميم تكوين الدّاَئرةِ العصبيَّة لدَيْنا كما لدى أصنافِ الثَّدِيَّاتِ بالإجمال والّتي تنشأ بفَضْلِ وُجودِها الحالة الوِقائيَّة والدِّفاعيَّة لدَيْنا في التَّنَبُّهِ للأخطار والابتعادِ عن أسبابها، إلَّا أنَّنا يَجِبُ أنْ نَعْمَلَ دائماً وباستِمْرارٍ على ضّبْطِ ذلك الجهاز والتَّخفيفِ من شِدَّةِ وَحِدَّةِ تَحسُّسِه للأشياءِ وللمُؤَثِّراتِ، بحيثُ لا ينْطَلِقُ بالزَّعيقِ الحادِّ المُتَصاعِدِ والمُسْتَمِرِ المُزعج لأتْفَهِ الأسباب الهامشِيَة في حياتِنا اليَوْميَّة، مِمَّا يَجْعَلُنا انْفعاليين في سلوكِنا وردّاَتِ فِعْلِنا، ويُقَوِّضُ من بيئة استقرارنا النَّفسي والعصبي والعاطفي، ويُفقِدُنا القدرة والتَّوازن في مواجهة مشاكِلِنا.

 

 فالقلقُ إذنْ وفي إحدى جوانِبِه، هو ذلك النَّمَطُ من توليدِ الأفكار في العقل الإدراكي الواعي، لدى الإنسان على قاعِدة المشاعر الاستباقيَّة، والَّذي يمكننا السَّيطرة عليه وضبط مساراته واتِّجاهاتِه إذا أحْسَنَّا القبض على الأفكار المرتبطة بالشُّعورِ بالقلق في الّلَحظةِ المناسبة وهي في بدايتها وقبل أنْ تتطوَّرَ إلى مشاعر مُتَطَرِّفة، وفي ذات الوقت يَرتبطُ ذلك النَّمط من توليدِ الأفْكارِ بعَقْلِنا الَّلاواعي وبعَقْلِنا العاطِفي والَّذي يحتَفِظُ بالصُّور المركوزة في ذلك الجزءِ من الذَّاكرة العميقة المُسْتَتِرة داخلَ مكنون عَقْلِنا الباطن والَّتي لها أبلغ الأثر في صياغة حالتنا المزاجيَّة على وجه الخصوص وفي تحديدِ ردودِ أفْعالِنا التِّلْقائيَّة، والَّتي تقعُ خارج دائرة إرادَتِنا في الغالب في حالِ استسلامِنا التَّام والنِّهائي لقوَّة تَدَفُّقِ تيار الأحاسيس والمشاعر الدَّاخليَّة، ولقُوَّةِ تداعي الصُّور وتكرارها من الذّاَكرةِ العاطفيَّة الَّتي هي مصدَرُ تلك الصُّور ومستودعها في آنٍ معاً. وقد تمَثِّلُ بعضُ المواقف والتَّحدِّيات الَّتي نواجهها قرينةً لازِمَةً ومدعاةً لاستدعاءِ أنماط كثيرة من الصُّورِ المُخْتَزَنَةِ في عمق ذاكرة العقل الباطن واللَّاشعور دون أنْ نُدْرِكَ ذلك، مِمَّا يُعمِّقُ من مشاعر القلق حتَّى خارج سياقات الأسباب الواقعيَّة والمباشرة الَّتي استَدْعَتْهُ.