الأحد  28 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مصالح صغيرة ومخاطر كبيرة / بقلم: نور عودة

2016-07-19 11:24:24 AM
مصالح صغيرة ومخاطر كبيرة / بقلم: نور عودة
نور عودة

 

في ثاني أيام العيد، التقيت مجموعة من أساتذة الجامعات في الولايات المتحدة، والمتخصصين في العلوم السياسية وحقوق الإنسان. وبعد استعراض الواقع المرير الذي يعايشه الشعب الفلسطيني بسبب تغول منظومة الاحتلال الإسرائيلي الكولونيالي وانسداد الأفق السياسي بسبب عنصرية وعنجهية هذه المنظومة وانشغال العالم بملفات أخرى، أمضينا قرابة الساعة نتحاور ونتناقش. ورغم أن النقاش كان مع ثلة من الأكاديميين الذين يفترض أن يكونوا ملمين ولو بالحد الأدنى بالقضية الفلسطينية، ظهر جليا أن الكثيرين منهم آثروا الذهاب إلى الاستنتاجات الأسهل، التي تعفيهم من الإحساس بأي مسؤولية أخلاقية تجاه ما تتخذه بلادهم من مواقف وما تتبعه من سياسيات تطيل من أمد الاحتلال والظلم الواقع في فلسطين. أحد الأساتذة قال لي أنه لا يرى أفقا للحل، وأنه يعتقد أن الحل يكمن في أن نقوم نحن الفلسطينيون بإيجاد صيغة ما للتعايش مع الواقع وتحسين ظروف معيشتنا وفرصنا الاقتصادية. لا داعي لسرد ردي في هذا السياق، لكن يكفي القول أنني أوضحت للأستاذ المصاب بكسل حاد في الأخلاق، أن استنتاجه نابع من إسقاط منحرف لقيم عنصرية تفترض أن الفلسطيني يمكن التضحية بكرامته وحقوقه في سبيل إيجاد حل يضمن الهدوء والاستقرار، والأهم أنه يضمن إرضاء اسرائيل. 

 

المنطق المنحرف للأستاذ هذا ليس ببعيد عن منطق السياسة كما تمارسها الدول الوازنة. المنطقة تشتعل من حولنا بدم ولحم الآلاف بل الملايين من الأبرياء في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرهم من الدول العربية، بينما تفترس إسرائيل ما تبقى من فلسطين بارتياح وبرود غير مسبوقين. في المقابل، تنشغل قيادة منظمة التحرير بالتعاطي الإيجابي والحذر مع ما يطرح من مبادرات هنا وهناك، مدركة أن ما يحصل في المنطقة أعاد ترتيب الأولويات فأصبحت قضيتنا الوطنية تفصيلا في الصورة الأكبر لأصدقائنا وغيرهم. ويتجلى هذا الواقع في المواقف المتكررة لكل الأطراف الدولية الوازنة التي تتجاهل واقع الاحتلال، كما حصل في تقرير الرباعية الأخير، وتساوي بين المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال في محاولة منها للتخفيف من وطأة بعض الانتقادات التي تخلو من أي أثر فعلي لإسرائيل وسياساتها الإجرامية. ويتضح في هذا المشهد أن المطلوب الآن دوليا هو تسوية على صعيد الإقليم تكون فيها قضية فلسطين تفصيلا في أحسن الأحوال أو ورقة في يد لاعب أو لاعبين آخرين في أسوئها.  

 

التطرف والظلامية صبغت منطقتنا بأحمر الدم وحرقة القهر لكننا لا زلنا نشاهد هذه الفظائع وكأنها تحدث في كوكب آخر، ونرى قادة العالم يجتمعون ويتخاصمون ويتراضون على مصيرنا ونحن ندور حول أنفسنا كالبلهاء. العالم من حولنا يشكل ويقسم ويغير حياتنا ونحن منشغلون، بينما بعضنا مسلّمٌ أمره وأمر شعبه لراع إيديولوجي أو ممول اقتصادي غير آبه أن مصير شعبه أصبح بسبب هذا التسليم ورقة رخيصة تباع وتشترى لصالح الراعي تارة والممول تارة أخرى.

 

قبل فترة وجيزة، أبرمت تركيا اتفاقا استراتيجياً مع إسرائيل حققت بموجبه مصالحها بينما اختزلت قضية شعب يطمح للحرية والكرامة من بوابة الوحدة الوطنية إلى أطنان مساعدات غذائية ومحطات تحلية وكهرباء ومشاريع كانت موجودة على الطاولة أصلا، معززة بذلك الانقسام ومرسخة حلم الانفصال. هذا الاتفاق لم يكن ممكنا لولا وجود طرف سمح لقضية فلسطين بأن تُختزل بهذا الشكل المهين وأن تصبح ورقة مفاوضات لصالح أطراف خارجية لتحسين وضعها هي على حساب كرامة الناس ومستقبلهم وحقوقهم. وبينما اهتم الفلسطينيون بقراءة تفاصيل بنود الاتفاق وما حمله من خيبات لبعض الواهمين، اتصل رئيس تركيا بالرئيس الروسي معتذرا عن إسقاط الطائرة الروسية التي كانت في طريقها لقصف أهداف داخل سوريا وبهذا أعاد الرئيس المهووس بإرث سلطان قديم رسم خارطة التحالفات فيما يخص الوضع المشتعل في سوريا والعراق على أقل تقدير ومهد الطريق لتقارب أمريكي-روسي لا شك أنه ستكون له الكلمة الفصل في إعادة رسم الخارطة السياسية السورية على أقل تقدير.

 

لكن الولاء الأيديولوجي سرعان ما أوجد لفرع الإخوان المسلمين في فلسطين زاوية يشكر من خلالها تركيا على إنجازها المفترض، ودعمها المزعوم للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة. كيف لا وقد أُبقي على غزة رهينة طوال عشر سنوات خدمة لمشروع إخواني انفصالي لا يمت لمصلحة القضية الوطنية بصلة، بل يعمل على تشويه الوعي وكيه فيما يخص قضايا الوطن فاختزلها بمعونات إنسانية وطبية ومشاريع إسكان تدشن باسم الراعي دونما اكتراث بالرعية المسحوقة التي لم تستشر فيما حلَ بها من دمار وحصار ولا ما جاءها من عطيات مؤدلجة!

وتجلى هذا الولاء الأعمى خلال ساعات ما عرف بمحاولة الانقلاب الفاشل في تركيا حيث خرج مناصرو حماس في القطاع بالآلاف "نصرة" للسلطان أردوغان، وحملوا صوره في حين حمل الأتراك علم بلادهم. وذهب البعض مثل القيادي وعضو المجلس التشريعي مشير المصري إلى التبرع بدم الشعب الفلسطيني فداءا لأردوغان والديمقراطية في تركيا في حين تحتجز حماس الكتاب والنشطاء بسبب ما يكتبون على صفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. حتى أن الاحتفالات لم تتأثر بشكر تركيا لإسرائيل لمواقفها المساندة خلال وبعد محاولة الانقلاب. ومع أن تداعيات الانقلاب الفاشل لا زالت في بداياتها إلا أنه من الضروري القول أن مظاهر الهيستيريا لدى حماس التي رافقت الأحداث تكشف مدى عمق الارتباط التنظيمي الذي لا يرى إلا بعيون التنظيم ولا يقيم إلا بما يتسق مع مصلحته، لدرجة دفعت بالشيخ الإخواني الأكبر القرضاوي أن يكتب لأردوغان مبشرا أن الله وملائكته وشعوب المسلمين معه! ولم تحضر تركيا الدولة في المواقف لأنها خارج الحسبة تماما.

 

من العار أن نبقى كفلسطينيين في هذا التيه الذي لا مبرر له سوى المصالح الصغيرة التي ترسخ الانفصال وتقوض القضية الوطنية التي ثار من أجلها شعبنا ومعه الآلاف من أحرار العالم. التاريخ يكتب من حولنا ولن ينتظرنا اللاعبون حتى ننتهي من صغائر أمورنا بل أن استمرار هذا العبث في مصلحة لعبة الأمم الكبرى التي تجري. ولا يقبل عاقل ما يساق من ترهات لتبرير استمرار الحال على ما هو عليه.

قد تشكل الانتخابات البلدية بداية مهمة في الوضع المستعصي فلسطينيا، لكنها ودون التزامن مع إعادة ترتيب للأولويات واتفاق على مكونات الهوية الوطنية وأولويات المرحلة الفلسطينية، تبقى ذرا للرماد في العيون. المطلوب خطوات تصوب الوضع الفلسطيني وترتقي به إلى مكانة الدولة التي نطالب العالم الاعتراف بها، فنعيد نحن رسم الخارطة السياسية الفلسطينية بما يحقق مصلحتنا الوطنية وبما يؤهلنا لصد الرياح العاتية التي تعصف بنا وبتطلعاتنا الوطنية.