الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بؤس الإنتلجنسيا العربية ..إلغاء الباحث ومصادرة المثقف

2016-10-07 09:27:56 AM
بؤس الإنتلجنسيا العربية ..إلغاء الباحث ومصادرة المثقف
رسم كاريكاتير

 

الحدث- رام الله

 

فيما يلي مقال نشرته صحيفة السفير عن واقع النخبة المثقفة في العالم العربي:

 

على المثقف أن يعرف كي يكون مستقلاً في تفكيره. وعليه أن يفكر كي يعرف، وأن يفكر حسب ما يمليه عليه ضميره. أخلاق المثقف الصدق، أي أن يكون شبيها بنفسه، أن يفكر بما تمليه ذاته. أما أن يتبع المثقف الفكر السائد، كأن يخضع لما تمليه الجماعة، دينية أو غير ذلك، أو يخضع للشعارات التي يمليها الاستبداد، فهو يفقد الضروري في تكوينه مهما بلغ معرفة. لا يكون مثقفاً فعلياً إلا إذا كان فرداً مستقلاً يثق بأفكاره، بذاتها ولذاتها، يعتبر صحتها أو عدم صحتها حسب ما يمليه ضميره الفردي.
على المثقف أن يتجاوز، أن لا يكتفي بالفكر السائد، وأن لا ينضوي تحت رايته لمجرد أنه فكر سائد. عليه أن يكون متمرداً. في مجتمعنا وعي سائد استسلامي ناجم عن الهزيمة، ليس أمام إسرائيل وحسب، بل الهزيمة الكبرى الناتجة من العجز في بناء دول ومجتمعات متماسكة قادرة، ولا تكون المجتمعات متماسكة وقادرة إلا بالتأسيس على الإنجاز والتنمية. الوعي السائد مستسلم للقدر. الوعي المطلوب هو الذي يتجاوز الهزيمة إلى أسباب الهزيمة، يتجاوز الاستسلام إلى الإنجاز، يقود شعبه لتحقيق التقدم بالإنجاز والتجاوز. التنمية ليست مسألة اقتصادية بحتة، هي مسألة سياسية بالدرجة الأولى، مسألة تشكيل وعي يخرجنا عما نحن فيه. الكلام في الإصلاح والثورة لا معنى له. تقوم الجماهير بالثورة، لا يلزمها مثقفون. لكن على هؤلاء دعمها، ولو من موقف أخلاقي، ففي ذلك التزام بالناس وقضاياهم. الكلام في الإصلاح مهمة المثقف، بما يعني تراكم التسويات. إذا قام الناس بثورة ونزلوا إلى الميادين جماهيرَ «غفيرةً» يصبح دعمهم موقفاً أخلاقياً لا معرفياً. على المثقف أن يعرف ما بعد الثورة، ما يجب القيام به من أجل تلبية المطالب التي أرادها الناس، وإلا كان العود على بدء.


يصدق المثقف مع نفسه عندما ينطلق من ضميره الذاتي وعندما يتوغل في المعرفة وتكون له المواقف التي تتناسب مع ذلك، ومع الضرورات الأخلاقية.


يشكك المثقف بالمصطلحات الشائعة (الشعارات). عليه تفنيدها. يدرك أن معظمها يعلو شأنه استجابة للدواعي الآنية لبعض أهل السياسة. يخرج المثقف على المواقف الجماعية لمصلحة المواقف المبنية على معرفة صحيحة. المعرفة طريق المثقف وليست المواقف الدعائية الشعبية. لدينا الكثير من كتابات أصحاب النيات الطيبة التي تفتقر إلى معرفة مؤسِّسة. الطريق إلى جهنم مزروعة بالنيات الطيبة.


أما الباحث فهو يبذل جهده من أجل معرفة جديدة. يكرس نفسه للمعرفة. نوع من رهبنة معرفية. الباحث متخصص، هو صاحب حرفة، مهنة من أجل العيش، لكن قبل كل ذلك من أجل المعرفة. الباحث متخصص، المثقف همه شمولية المعرفة. ليس عيباً أن يجتمع الباحث والمثقف في شخص واحد. العيب في عدم الحفاظ على الفصل بين المجالات. العيب الأكبر هو في إبقاء المجالات معزولة عن بعضها دون تفاعل بينها. تَضْمُرُ المعرفةُ المتخصصة دون الاتصال بالعالم الأوسع. في المقابل، يتسطح الوعي دون الاستناد إلى معرفة متخصصة.


ينتج الباحث معرفة. يصوغها المثقف في وعي. الانخراط في المجتمع شرط لذلك. شرطه الآخر أن يكون نتيجة تفاعل بين النخبة الثقافية والجمهور. شرط ثقافة الباحث هو الانخراط في العالم، شرط ثقافة المثقف أن يكون منخرطاً في مجتمعه. مع تفاعلهما ينخرط المجتمع في العالم، يصير جزءاً من العصر، يعبر إلى الحداثة التي تكون قاعدتها التقدم والإنتاج لا الاستهلاك المحض. لا معنى للنخبة إذا لم تكن على تواصل مع العالم، وإذا لم تعتقد أن في بقية العالم الأكثر تقدماً ما يستحق التقليد والتبني. إذا أردنا العيش في هذا العالم، علينا أن نكون مثله لا أن نناضل كي يصير مثلنا. لنتذكر أننا مهزومون. الهزيمة الداخلية، داخل الذات، أشد وأدهى من الهزيمة الخارجية. ربما كانت الأولى سبب الثانية.


لا خوف من تقليد الغرب، ولا خوف من أن تصير قيمه هي قيمنا. نأخذ فكره وثقافته بِعَجْرِهما وَبَجْرِهما. لا خوف على ثقافتنا وموروثنا. أرادهما التاريخ وعلينا تجاوزهما. لا خوف من التجاوز. لو خاف أسلافنا من ذلك لما أنجزوا حضارة عظيمة كانت حصيلة الثقافات السابقة والغريبة. عقابنا عند الله هو الغضب إذا بقينا على ما نحن عليه، إذا بقينا مهزومين. لن نكون خير أمة أخرجت للناس مع الهزيمة، هزيمة الذات وهزيمة الخارج.


أنظمتنا الغارقة بالهزيمة، المتواطئة معها، المستفيدة منها تكره الباحثين وتلغي المثقفين ودورهم. ليست مصادفة أنه ليس في بلاد العرب مراكز بحثية على قدر من الاحترام والاستقلالية والمصداقية. البحث الجدي الرصين يؤرق الحكام، كما أرق غاليليو وكوبرنيكوس الكنيسة والحكام في ما مضى. المثقفون الصادقون الجديون يؤرقون الحكام وكل السلطات.


لذلك يشترون خدماتهم ويطوعونهم، إذا لم يودعوهم السجون، وأكثر من ذلك.


تتواطأ أنظمتنا السياسية وسلطاتنا الدينية لإلغاء الباحث (لا مراكز بحثية تستحق الإسم في البلاد العربية) ولتدجين المثقف بالإيجار. يؤرق الباحثون والمثقفون الحكامَ السياسيين والدينيين. بالمقابل، فهؤلاء يشترون خدماتهم، وإلا فإنهم يضعونهم في السجن، إن لم يكن أكثر.


في المقابل، ما حدث عند الإنتلجنسيا خلال العقود الماضية هو نوع من دخلنة متطلبات السلطة التي فرضت على نفسها نوعاً من الانقماع الذاتي من أجل عدم الخروج إلى العلن بأفكار تتحدى السلطات السياسية والدينية. تحتاج هذه النخب إلى الخروج من حالة الانقماع الذاتي، تحتاج إلى التمرد وإلى الانخراط في المجتمع والعالم من أجل التغيير والتجديد. لا يكون ذلك بالانكفاء على أنفسنا. الانكفاء استسلام للقدر، خضوع لما هو سائد، إقرار بأن الحقيقة تمتلكها السلطة. على الإنتلجنسيا سلخ رداء الحقيقة عن الحكام، إسقاطهم فكرياً، إسقاط الفكر الشائع. سقطت هذه الأنظمة في بناء المجتمع والدولة. والمطلوب إسقاطها فكرياً وثقافياً. تحويلها إلى مزبلة التاريخ بدل أن تحول هي المجتمع والدولة إلى مزبلة التاريخ.


الفكر والممارسة لا ينفصلان. كل منهما سياسي وأخلاقي. تتوحد السياسة والأخلاق في تفكير من نوع جديد خارج عن المبتذل الرديء البذيء الذي هو سائد ومشاع... وذلك يتوقف على نوع المسائل التي تناقشها الإنتلجنسيا، وعلى الأسئلة التي تطرحها على نفسها والمتعلقة بالدولة والمجتمع والأمة والمصير.


في مقالات مقبلة سيكون طرح الأسئلة نوعاً من النقد الذاتي.