بقلم: د. عصام عابدين
يتعرض العديد من المواطنين لاستدعاءات من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية بطرق وأشكال مختلفة، من قبيل الاتصالات الهاتفية وطلب الحضور إلى مقر الجهاز الأمني لشرب القهوة والحديث في موضوع معين، أو إرسال استدعاءات خطية موقعة من مسؤولي الأجهزة الأمنية للحضور بتاريخ وساعة معينة تحت طائلة المسؤولية، وفي عدد من الأحيان يذهب المواطن من تلقاء نفسه إلى مقرات الأجهزة الأمنية على أمل الحصول على تراخيص أو أذونات رسمية بعد أن بات اشتراط الموافقات الأمنية نهجاً يمارس على الأرض للحصول عليها.
وهذا من حيث المبدأ، يدلل على مدى سيطرة الأمن على مفاصل الحياة، وتحكمه بمنظومة حقوق الإنسان بأكملها، أي بمعنى أن الأمن هو من يقرر إن كان المواطن سيتمتع بهذا الحق أم لا، بتلك الحرية أم لا، وبذلك نكون أمام عملية تسييس للحقوق والحريات، بمنظور وعقلية أمنية، ودون أية ضوابط أو معايير، ويتم تغييب لغة القانون وحقوق الإنسان من الوعي المجتمعي، ونصبح أمام واقع مختلف تماماً محكوم بلغة الأمن وسطوته.
وفي ظل غياب الرقابة على الأداء، ولا سيما الرقابة المجتمعية، تغدو المحاسبة على انتهاك الحقوق والضمانات الدستورية والقانونية أمراً صعب المنال، وبخاصة مع استمرار تغييب البرلمان ورقابته على السلطة التنفيذية وأجهزتها، والخلل البنيوي في منظومة العدالة، وبذلك يصبح انتهاك سيادة القانون وامتهان الحقوق والحريات وكأنه أمر طبيعي، ويتحول الدفاع عن الحقوق والتمسك بها من قبل المواطنين إلى أمر شاذ في واقع المجتمع!
لا يمكن وقف استمرار التدمير في النظام السياسي ومنظومة الحقوق والحريات، طالما استمر المواطنون، وهم أصحاب السيادة، ومصدر السلطات العامة، والضابط الحقيقي لأدائها، في الخضوع والقبول بانتهاك حقوقهم وكرامتهم وضماناتهم الدستورية والقانونية، أياً كانت الدوافع والأسباب والمبررات. وفي المقابل، فإن تمسك المواطنين وتشبثهم بحقوقهم هو دفاع عن سيادة القانون ومرتكزات الحكم الصالح، وبذلك لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يقف في وجه إرادة شعبية عقدت العزم على وضع حد لانتهاك الحقوق والكرامة الإنسانية.
وأول الطريق أن ندرك جيداً معنى ومكانة الحرية الشخصية، إنها حق طبيعي من حقوق الإنسان، حقٌ لصيق بالإنسان، وعنوان تقدم ورقي المجتمعات، والمساس بها مساس بالكرامة الإنسانية، وهي أصل ومنبع الحقوق والحريات، والتخلي عنها أو المساومة عليها بأي شكل من الأشكال من شأنه أن يؤدي إلى تدمير منظومة حقوق الإنسان بأكملها، وبالتالي الإنزلاق السريع إلى مستنقع الإستبداد. ولذلك نجد أن القانون الأساسي الفلسطيني، كما المواثيق الدولية، أكد على هذا المبدأ الراسخ بقوله "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مكفولة ولا تمس".
ولمّا كانت الحرية الشخصية هي الأصل، فإن أيّ قيد يرد عليها هو من قبيل الاستثناء، وله مبرر مرتبط بوقوع جريمة معينة شكلت اعتداء على المجتمع، وهدف يتمثل في الحفاظ على النظام العام وأمن وسلامة واستقرار المجتمع، وهذا الاستثناء محاط بضمانات دستورية وقانونية صارمة للحفاظ على الحق الأصيل (الحرية الشخصية) وعدم النيل منه ؛ وذلك من قبيل ما نصت عليه المادة (11) من القانون الأساسي الفلسطيني بقولها " لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأيّ قيد أو منعه من التنقل إلاّ بأمر قضائي".
وبالتالي، فإن الاستدعاءات التي توجه للمواطنين من قبل الأجهزة الأمنية، أياً كان شكلها، سواء من خلال اتصالات هاتفية، أو استدعاءات خطية موقعة من قبل مسؤولي الأجهزة الأمنية، تشكل بحد ذاتها انتهاكات للحقوق والضمانات الدستورية والقانونية، الملازمة للحق في الحرية الشخصية، وهي ضمانات ذات طابع قضائي، ويجب أن تتم "بأمر قضائي" والأمر القضائي لا يصدر إلا عن النيابة العامة أو القضاء. وبذلك فإن حالة الاستجابة المجتمعية لاستدعاءات الأجهزة الأمنية تؤدي إلى تعميق انتهاك مبدأ سيادة القانون، وتدمير ممنهج لمنظومة الحقوق والحريات، وبالنتيجة تغدو تلك الانتهاكات أمراً طبيعياً بل ويحظى بقبول أو استجابة مجتمعية!
ومن أجل تثبيت تلك الانتهاكات في وعي المجتمع، باعتبارها تصرفاً طبيعياً وليس شاذاً، يتم الترويج دوماً بأن الأجهزة الأمنية التي تمارس تلك الإجراءات (الانتهاكات) تملك صفة "الضبط القضائي" بموجب القانون، وهذه الصفة تخولها استدعاء الأفراد هاتفياً أو إصدار مذكرات استدعاء بحقهم واحتجازهم، ومن ثم عرضهم على النيابة العامة، وبالتالي فإن تلك الإجراءات لا تنتهك الحريات الشخصية والضمانات الدستورية والقانونية!
هذا الزعم لا أساس له في القانون، وينطوي على تضليل مصحوب بانتهاك سافر للحرية الشخصية، ومساس بالضمانات الدستورية والقانونية للأفراد، وذلك لأن "صفة الضبط القضائي" هي شرط أو ضمانة مسبقة لتنفيذ "الأمر القضائي" بالاستدعاء أو القبض الصادر عن النيابة أو القضاء من قبل مأموري الضبط القضائي، وهنالك أجهزة لا تمتلك هذه الصفة أساساً تجاه المدنيين (الاستخبارات العسكرية مثلاً) ولا تستطيع تنفيذ الأمر القضائي بالاستدعاء أو القبض، ولا يجوز أن يصدر لها هذا الأمر القضائي. وبالتالي، فإن صفة الضبط القضائي لا تخول مأموري الأجهزة الأمنية صلاحية القيام بالاستدعاءات أو القبض، دون أمر قضائي، ما يعني أن الضبط القضائي هي صفة يشترطها أو يتطلبها القانون (شرط مسبق) لإمكانية تنفيذ الأوامر أو المذكرات القضائية.
باختصار، الأساس هو الحرية الشخصية، والاستثناء تقييدها، حال وجود جريمة معينة، وهي محاطة بضمانات، أولها وجود صفة الضبط القضائي بموجب القانون، وثانيها تنفيذ الإجراء بناء على أمر قضائي لا يصدر إلا عن النيابة أو القضاء، باستثناء حالة الجرم المشهود، وهو الجرم المتلبس به، حيث أن حالة التلبس بالجريمة لا تتطلب أمراً قضائياً لتنفيذ إجراء القبض. وبغير ذلك فإن تنفيذ إجراء الاستدعاء أو القبض يعني أننا أمام جريمة دستورية وقانونية (جريمة حجز الحرية الشخصية) وهي تندرج أيضاً في إطار جرائم الفساد.
وهذا ما أكدت عليه المادة (32) من القانون الأساسي "كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوة الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر". فيما نصت المادة (178) من قانون العقوبات على أن "كل موظف أو قف أو حبس شخصاً في غير الحالات التي ينص عليها القانون يعاقب بالحبس من ثلاثة شهور إلى سنة". كما وأكد قانون مكافحة الفساد لعام 2005 صراحة على أن حجز الحرية الشخصية وإساءة استخدام السلطة تندرج ضمن جرائم الفساد.
وعند تنفيذ إجراء الإستدعاء أو القبض، من قبل مأمور الضبط القضائي من الأجهزة الأمنية التي تمتلك هذه الصفة، وبموجب "أمر قضائي" صادر عن النيابة العامة أو القضاء، فإنه يتوجب على مأمور الضبط القضائي الذي يحمل بحوزته الأمر القضائي أن يبلغ مضمونه للشخص المراد القبض عليه وأن يطلعه على الأمر القضائي لحظة تنفيذ إجراء القبض، وهي ضمانة أساسية ينبغي الوقوف عندها والالتزام بها، وهذا ما أكدته المادة (112) من قانون الإجراءات الجزائية الفلسطيني " يجب على القائم بتنفيذ المذكرة أن يبلغ مضمونها للشخص الذي قبض عليه وأن يطلعه عليها". وكل ذلك ينطلق من أن الحرية الشخصية هي الأصل، والمساس بها هو الاستثناء، وهذا الاستثناء محاط بضمانات دستورية وقانونية، ومخالفتها تشكل جرائم موصوفة في القانون.
إن تمسك المواطنين بالحريات الشخصية وضماناتها الدستورية والقانونية، ورفضهم التعاطي مع أية إجراءات تنتهك حقوقهم وكرامتهم الإنسانية، هو دفاع عن مبدأ سيادة القانون ومنظومة الحقوق ومرتكزات الحكم الصالح، وهم بذلك يؤكدون أنهم أصحاب السيادة، ومصدر السلطات، والرقيب على أدائها إن انحرفت عن القانون وسيادته، ولن يعدموا السبل في الدفاع عن حقوقهم في مواجهة الانتهاكات إن توفرت الإرادة والتصميم، والإ فإننا أمام حالة كي مستمرة للوعي المجتمعي، للقبول بالانتهاكات، باعتبارها أمراً طبيعياً بل ومبرراً قانونياً!
وهذا ما يُقال في الكثير من الانتهاكات، التي باتت تمارس وكأنها أمر طبيعي ومقبول في وعي المجتمع، من قبيل ما يُسمى "المسح الأمني أو السلامة الأمنية" الذي يعد من أخطر الانتهاكات التي تطال منظومة الحقوق والحريات بأكملها، وتجعلها رهينة للموافقات الأمنية، وهي تشكل انتهاكاً سافراً لأحكام القانون الأساسي والقانون، بل وانتهاكاً لقرار مجلس الوزراء ذاته الذي أكد في جلسته رقم (133) بتاريخ 24/4/2012 على إلغاء العمل بشرط السلامة الأمنية أو ما يسمى المسح الأمني، الذي يمارس على نحو واسع، ويطال مختلف الحقوق وأرزاق العباد!
المساس بالحريات الشخصية وضماناتها الدستورية والقانونية، يعني أننا أمام جرائم موصوفة في القانون، ويتطلب المبادرة إلى إرسال بلاغات بشأنها إلى النيابة العامة باعتبارها المشرفة على أداء مأموي الضبط القضائي، ووضع النيابة العامة ومنظومة العدالة أمام مسؤولياتها بموجب القانون، ويتطلب تعزيز التعاون والتواصل مع المنظمات الحقوقية وبخاصة الفاعلة على الأرض لمتابعتها بمختلف أدوات المناصرة، ويتطلب العمل على فضحها والمطالبة بمحاسبة مرتكبيها باستخدام الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والسعي لابتكار طرق وأساليب ديمقراطية خلاقة تساهم في تعزيز الوعي المجتمعي بطبيعة الانتهاكات ووجوب الدفاع عن الحقوق ومواجهة الانتهاكات وعدم الرضوخ لها والقبول بها على حساب تدمير سيادة القانون والكرامة الإنسانية.
ولعل من المفيد أن يدرك الجانب الرسمي الفلسطيني، وبخاصة بعد الانضمام للاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان واستحقاقاتها، وفي ظل الاستعداد للمرحلة المقبلة لمناقشة تقارير الاتفاقيات التي انضم إليها، أن اللجان الدولية في الأمم المتحدة المعنية بتلك الاتفاقيات، وبخاصة لجنة مناهضة التعذيب، ستوجه للوفد الفلسطيني في جنيف العديد من الأسئلة الصعبة والمحرجة المتعلقة بالحريات الشخصية وإجراءات الاستدعاء والقبض وأداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية على هذا الصعيد ومدى مراعاتها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان؟
وهنالك أسئلة أخرى لا تقل صعوبة وإحراجاً ستوجهها لجنة مناهضة التعذيب للوفد الفلسطيني من قبيل هل يتم السماح بحضور محام للمحتجز في مقرات الأجهزة الأمنية؟ وهل يتاح للمحتجز الاتصال بذويه؟ وهل تقوم الأجهزة الأمنية بتنفيذ أوامر الإفراج القضائية فور صدورها؟ وكيف يمكن تفسير الامتناع عن تنفيذ أكثر من أمر قضائي بالإفراج عن ذات الشخص المحتجز؟ ومدى فعالية منظومة العدالة وسبل الإنصاف المتاحة؟ وماذا عن الاحتجاز التعسفي على ذمة المحافظين بدون أوامر قضائية خلافاً للقانون الأساسي والمعايير الدولية؟ وغيرها من الحقوق والضمانات التي ستتوقف أمامها تلك اللجنة الدولية- ولجان أخرى- مطولاً انطلاقاً من قناعتها بأهميتها الكبرى في حماية وتعزيز الحريات الشخصية والوقاية من جرائم التعذيب وسوء المعاملة. هذا مع التذكير بأن مشهد مناقشة الوفد الفلسطيني لالتزاماته أمام اللجان الدولية في الأمم المتحدة سيراقبه العالم في بث مباشر.