الخميس  08 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

خالد

فلسطنيون برسم اللجوء

2016-11-02 03:02:27 PM
خالد
مخيم للاجئين الفلسطينيين / من الأرشيف

 

الحدث- روان سمارة

هو ذات الرحيل، وذات الهجر للأماني والذكريات، وذات الألم المنكه برائحة الموت، الفرق هنا أنها أم فقدت كل شيء حتى ابنها، تقول: "في المخيم سمعنا حكايات قديمة من عمر الهجرة الأولى عن أمهات فقدن أبناءهن في الرحيل، وكنت بداخلي أقول أي أم تلك التي قد تترك ابنها خلفها في العراء، أي أم تلك القادرة على هجر طفلها عنوة كان الأمر، أم طواعية، فما كان من القدر إلان عاقبني، وجعلني فجأة تلك الأم ".

 

بدأت تفاصيل الحكاية بعد ليل طويل من القصف وإطلاق النار الكثيف على مخيم اليرموك، حيث قرر جهاد اصطحاب زوجته هدى وطفليه ليجبروا حظهم من الرحيل، فتركا كل ما يملكان وراءهما، واكتفيا بحمل ليث وخالد، تقول هدى :"كان زوجي يرفض الرحيل، يصر على البقاء في المخيم، و حتى عندما قررت عائلته الرحيل، رفض الأمر بشكل قاطع، فاليرموك هو وطننا الثاني الذي لا يعرف غيره، وعندما دخل المسلحون للمخيم، والذي أصبح فجأة ساحة للحرب، كان منزل عائلته المجاور لمنزلنا هو أحد ضحايا القصف، لتنهار ذاكرته في لحظات أمام عينيه، وعندها قررنا الرحيل".

 

مشهد الهجرة الذي لم يكن أقل ألما، لم يفقد رائحة الموت في كل تفاصيله، بل ظل شبحه يخيم على الرحلة والرحيل منذ البداية، فقد كان خروج هدى وعائلتها من المخيم شبه مستحيل، لكن رشوة كبيرة دفعها جهاد  لأحد المسلحين ثمنا لحياته وحياة عائلته حولت المستحيل لممكن، فخرجوا من المخيم بتاريخ 23/3/2012، تقول هدى:"أمر على تفاصيل تركنا للمخيم وكأنها حلم مزعج، خرجنا في منتصف الليل، وصوت القصف وإطلاق الرصاص يسكن أذنيّ، أمّا طريق نجاتنا فقد كان بين الأنقاض، وبالرغم من ذلك فقد كانت كل خطوة نخطوها باتجاه الخارج تجعلنا أكثر حزنا وألما، وإصرارا في ذات الوقت على الرحيل".

 

بعد ليلة قاسية انتهى المطاف بتلك العائلة بين المزارع المحاذية لدمشق، ليرحلوا بعدها في اتجاه آخر لا تقل طريقه صعوبة عن الاتجاه الأول، لبنان كانت هي الوجهة الجديدة، فهناك تسكن عائلة جهاد وإخوته، ولهناك يتوجه معظم اللاجئين من سكان اليرموك، تقول هدى: "بعد يومين قضيناهما عند أحد الأصدقاء في ريف دمشق، قررنا التوجه للبنان، حيث تقيم عائلة جهاد، واستطعنا الالتحاق بمجموعة من اللاجئين المتوجهين للبنان، فالطريق ليست آمنة حتى نغادر وحدنا برفقة طفلين، كنا فلسطينيين، وسوريين، نسير سويا، وعندما وصلنا لإحدى المواقف التي تؤمن النقل للحدود اللبنانية، رفض السائق نقلنا نحن الفلسطينيين، وذريعته كانت رفض الجيش اللبناني على الحدود إدخالنا، فاضطررنا للبقاء في الموقف حتى مجيء سيارة أخرى".

 

الساعات التي كانت تمر قاسية على هدى في الموقف، حملت لها حزنا كبيرا يعتصر قلبها حتى الآن، تقول: "في الموقف تركني جهاد؛ ليجلب شيئا نأكله، وتركني والطفلين، كان الموقف مزدحما باللاجئين، وكان ليث يغفو على ذراعي، وخالد يلهو مع طفلة بالقرب مني، فجأة بدأ الضجيج في المكان، وأصبح الكل من حولي يركضون بكل الاتجاهات، لم أفهم ما حصل، لكنني عدت لأشتم رائحة الموت من جديد، فحملت ليث بين ذراعي وطلبت من خالد اللحاق بي وركضت مسرعة باتجاه لم أعلم إلى أين سيأخذني، لكن الناس من حولي كانت تركض معي بنفس الاتجاه وهو ما طمأنني، وبعد عدة ثواني لم أعد أرى خالد، فوقفت وعدت للوراء، وكنت أركض بكل الاتجاهات، أنادي وأصرخ، وأبحث عنه في كل الوجوه، وبين الأذرع، ولكن لم أجد خالد، بقيت على هذه الحال طويلا، والناس من حولي تركض كمن يسابق الزمن، منهم من كان يقف سائلا ومنهم من كان يمر كطيف، وأنا وسط كل هذا أقف عاجزة مكتوفة اليدين، حتى رأيت جهاد".

 

جهاد الذي عاد أدراجه مسرعا باتجاه الموقف فور سماعه لصوت الرصاص، كان أيضا يبحث في وجوه المارة عن هدى وطفليه، وعندما سمع من أحد الرجال أنا امرأة فقدت ابنها وهي تركض وتبحث كمجنونة، أخبره حدسه أن المرأة هي هدى وأن ابنه هو الطفل الضائع، فصار يبحث أيضا عن ابنه دون أن يتيقن من صحة ضياعه، يقول: "عندما شاهدت هدى كانت مصفرة الوجه، وعيناها تحملان بحر من الدموع، وتتشبث بليث وكأنها تخشى فقدانه أيضا، لم أشاهدها على هذه الصورة من قبل، ولم أعلم بما علي أن أشعر، أو كيف علي أن أتصرف، حتى بدأ صوت الرصاص بالاقتراب، في تلك اللحظة أخذتها وليث  تاركا المكان، وتاركا قلبي أيضا".

 

جهاد وهدى، وصلا بعد جهد للحدود اللبنانية، ومنها لمخيم عين الحلوة، وكانا من بين القلائل الذين استطاعوا عبور الحدود، لكنهما مع ذلك كانا يخرجان باستمرار قاصدين كل تجمع للاجئين بحثا عن ابنهم خالد، الذي لا يزال مفقودا حتى الآن، تقول هدى: "لم أعلم كيف غادرت سوريا، وكيف وصلت لعين الحلوة، كل ما أعلمه أنني تركت جزءا من روحي هناك وسأظل أفتش عنها".

 

الآن وفي ظل انتهاء إقامات العديد من اللاجئين الفلسطينيين السوريين في لبنان، ورفض الحكومة اللبنانية التجديد لهم، أصبحت حركة جهاد وهدى محدودة، وبحثهم صار شبه مستحيل، فخروجهما من عين الحلوة يعني الترحيل مباشرة في حال علمت السلطات اللبنانية بذلك، وهو ما يعني حرمانهما من فرصة العثور على ابنهما أو اللقاء به على المدى المنظور على الأقل، تقول هدى: "لا يهمني ما يقال عن الوضع في اليرموك، ولا العودة لبيتي حتى، ما يهمني هو خالد، سأظل أبحث عنه ولن أرحل من هنا بدون التأكد من أنه ليس موجودا هنا حتى لو اضطررت للخروج عن قوانين البشرية كلها".

 

أربعة أعوام مرت على فقد خالد، وهدى لا زالت تجهل مصيره، وتجهل إن كان حيا أم ميتا، هي أم قتلها الألم كما قتل غيرها من الفلسطينيات اللواتي فقدن أبناءهن في رحلة شعب ارتسمت بلجوء لم ينتهي ويبدو أنه لن ينتهي في القريب...