الأربعاء  01 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عدد 73 | تدوير البطاريات مهنة الموت في غزة

2016-11-08 05:15:50 AM
عدد 73 | تدوير البطاريات مهنة الموت في غزة
بطارية (تعبيرية)

 

الحدث- محاسن أُصرف

 

"كان وقع الصدمة كبيرًا على المواطن مجدي عطون 38 عامًا، حين خضع لفحصٍ طبي وكانت النتيجة أنه مُصاب بتسمم الرصاص في الدم، وغضروف على العصب" مهنة مجدي في إعادة تدوير البطاريات كانت السبب في معاناته المرضية وفق تشخيص الطبيب المعالج، لكن ذلك لم يحمل الرجل على أن يترك مهنته إلى أخرى تعينه على تحقيق متطلبات أسرته في ظروف صحية أفضل قليلًا.

 

يقول لنا مجدي: "إن الحصار والفقر وإنعدام الفرص في القطاع جعلوه مضطرًا للعمل في إعادة تدوير البطاريات والتعرض لبخار الرصاص المتواجد فيها أثناء صهره ليحظى بما يسد به رمق عائلته"، ويُضيف أنه كان يجهل تلك المخاطر خاصة في ظل انعدام الرقابة من الجهات الرسمية على ورش التصنيع وعدم توعيتها العاملين بسبل السلامة المهنية الواجب اتباعها لتجنب مخاطرها على صحتهم والبيئة التي يعيشون فيها.

 

وبدأت مهنة إعادة تدوير البطاريات في قطاع غزة تنمو مع بداية الحصار وما رافقه من انقطاع مستمر للتيار الكهربائي، جعل المواطنين يُفكرون في بدائل، فكان اللجوء أولًا إلى المولدات الكهربائية ولمّا أُثبت خطرها بالانفجار وإحداث حرائق بشكل متكرر برزت البطاريات التي تقوم بتشغيل إنارة الليد، وتصاعد الاهتمام بها بشكلٍ ملحوظ بعد إغلاق الأنفاق فكانت فكرة التدوير حلًا عمليًا في مواجهة المنع الإسرائيلي والمصري لوصول المنتجات إلى قطاع غزة، ويرى باحثون أن الخطر لا يكمن في إعادة التدوير وإنما في الآلية المتبعة التي لا يتوفر فيها أيٍّ من عناصر السلامة سواء على مستوى مكان الورش أو خطوات العمل التي تقتضي عدم الملامسة المباشرة لمادة الرصاص عبر ارتداء ملابس خاصة للحماية.

 

"الحدث" في سياق التقرير التالي ترصد مخاطر العمل في إعادة تدوير البطاريات الملغومة بالرصاص القاتل.

 

رزق مغمس بالرصاص

 

بحسب العاملين في إعادة تدوير البطاريات فإن الأربارح التي يجنوها في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة المنتشرة في القطاع تبدو جيدة تُعينهم على توفير متطلبات الحياة لأسرهم، ويقول مجدي عطون  الذي يعمل في هذا المجال منذ عشر سنوات:" إن أسعار البطاريات المعاد تدويرها يتراوح بين 450-550 شيكلًا وفقًا لحجم البطارية وقوتها، لافتًا إلى أنها أقل بكثير من سعر الجديد منها التي تتراوح بين 1100-1400 شيكلًا، وأضاف أن الفرق في السعر يُمثل عامل جذب لصالح المعاد تدويره بسبب الأوضاع الاقتصادية التي يُعانيها الناس في القطاع عمومًا، يؤكد الرجل أنه لا يجد سبيلًا للرزق سوى بالعمل في إعادة تدوير البطاريات، وتابع أنه بعد ظهور أعراض المرض عليه قبل خمس سنوات حاول الابتعاد عن العمل والبحث عن سبيل آخر للعيش لكنه فشل بسبب انعدام الفرص في القطاع حتى فرص التشغيل المؤقت.

 

ولا يختلف عنه محمود الحلو الذي رغم معاناته من الفشل الكلوي لا يزال يعمل في مهنة جمع البطاريات التالفة وصهر ألواح رصاصها ليحصل على مبلغ 15-20 شيكلًا لقاء بيعه الرصاص لأصحاب ورش تصليح وتجديد البطاريات، يقول :"إنّه لا يجد سبيلًا آخر للعمل"، ويُضيف أنه يُحاول إتباع إجراءات السلامة أثناء عملية فصل ألواح الرصاص وصهرها عبر لبس قفازات ووضع كمامة حتى لا يتنفس الدخان المتصاعد أثناء الصهر، ويُطالب الرجل وزارة العمل وكافة الجهات المعنية أن تُوفر له وللعاملين في مجال جمع البطاريات التالفة وإعادة تدويرها إجراءات السلامة اللازمة، وإخضاعهم للفحص الطبي علاوًة على توفير فرص عمل أكثر أمنًا تجنبهم المخاطر وتحفظ حياتهم، يقول :"الحكومة مُطالبة بتوفير سُبل العيش الكريم لنا".

 

وبحسب إحصاءات واردة من وزارة الاقتصاد الوطني بغزة، فقد وصل إلى القطاع حتى إبريل الماضي قرابة 107 طن من المستلزمات الخاصة بتجديد البطاريات، بارتفاع ملحوظ عن العام 2015 والتي دخل فقط 73 طن، وأضاف أن  مرد الزيادة إلى اتساع رقعة العاملين في إعادة تدوير البطاريات في الآونة الأخيرة نظرًا لاعتماد السكان عليها في عمليات الإنارة أثناء الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي.

 

آثار صحية وبيئية

 

من جانبها حاولت سلطة جودة البيئة في قطاع غزة القيام بدروها في محاربة هذه الظاهرة التي باتت تضر بالإنسان والبيئة وأخطارها تصل لحد الموت بعد التعرض لها مباشرًة واستنشاق مادة الرصاص بها التي تُحدث تدهورًا خطيرًا على نمو الدماغ والجهاز العصبي.

 

يقول خالد أبو غالي مسئول ملف حماية البيئة بسلطة جودة البيئة بغزة، أنهم من وحي المسئولية والاختصاص وبعد ازدياد تعامل الناس في قطاع غزة مع البطاريات بسبب اعتمادهم عليها في الإضاءة بدلًا من المولدات الكهربائية أثناء انقطاع التيار الكهربائي، عمدوا إلى تنفيذ عددًا من حملات التوعية بخطورة التعرض لمادة الرصاص التي تُعد ثاني عنصر بعد مادة الزرنيخ ضمن قائمة المعادن الثقيلة العشرين التي حددتها منظمة الصحة العالمية كأخطر المعادن التي تُؤثر  بشكل سلبي على صحة الإنسان والبيئة، وبيَّن أن أخطر تأثيراته تكون على الأطفال حيث يؤدي تعرضهم للرصاص إلى ضعف نمو الدماغ والجهاز العصبي لديهم مؤكدًا أن إحصاءات منظمة الصحة العالمية تُشير إلى أن تعرض الأطفال للرصاص يزيد نسبة إصابتهم بالعجز الذهني حيث توجد قرابة 600 ألف حالة سنويًا على مستوى العالم، وأضاف أن مخاطره على البالغين تتنوع بين الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم، في حين قد يُؤدي تعرض المرأة الحامل للرصاص سواء باستنشاقه عبر الهواء إلى الولادة المبكرة وأحيانًا تشوه الجنين بشكل طفيف أو لادته ميتًا.

 

وفي سياقٍ متصل بيّن أن سلطة جودة البيئة تتواصل مع وزارة الصحة ووزارة الاقتصاد من أجل الحد من انتشار تلك الورش وإخراجها من محيط الأحياء السكنية، وأضاف أن دائرة التوعية في سلطة جودة البيئة نفذت العديد من البرامج وحلقات التوعية إلا أنها لم تتمكن من إنهاء الظاهرة، وأرجع السبب في ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية التي يُعانيها أهالي القطاع والتي تُجبر المواطنين على العمل في مهن خطرة من أجل توفير قوت يومهم، لافتًا أن حالات التسمم بالرصاص بدأت بالظهور بشكل ملحووظ خلال السنوات الـ 15 الأخيرة بين المواطنين ذوي العلاقة بورش تصنيع البطاريات.

 

ووفقًا لنص المادة 7 من قانون البيئة الفلسطيني لعام 1999 فإن سلطة جودة البيئة تتحمل مسئولية التنسيق مع الجهات المختصة لإقرار خطة وطنية شاملة لإدارة النفايات الصلبة والإشراف على الهيئات المحلية لتحديد أساليب ومواقع التخلص منها بما لا يترك ضررًا على صحة البيئة والإنسان.

 

ورش التدوير الخطر الأكبر

 

لعل تركز معظم ورش إعادة تصنيع البطاريات في أماكن مزدحمة بالسكان، يزيد من مخاطرها على صحة المواطنين والبيئة المحيطة بهم، وتشير المعايير الدولية إلى ضرورة بناء المصانع والورش الخاصة بعمليات إعادة التدوير في مناطق خالية من السكان ومراعاة أن يكون بتصميم يعزله عن الخارج حتى لا يُسمح بتسرب الأدخنة للبيئة المحيطة ما يقضي بتلوث الهواء والتربة ومن ثم انتقالها إلى الإنسان، بالإضافة إلى ضرورة توفير ملابس خاصة وقفازات وكمامات توفر للعامل الهواء النقي.

 

تقول أم أحمد علوان 40عامًا من غزة، أنها تعرضت صدمة كبيرة حين وضعت مولودها أحمد قبل تسعة سنوات من الآن واكتشفت أن نموه العقلي والعصبي بطيئًا ما دعاها إلى عرضه على طبيب، تؤكد أن نتيجة الفحوصات والتحاليل الأولية أشارت إلى إصابته بتسمم الرصاص وأن تلك المادة تغلغلت في عظم أطرافه وعملت على إعاقتها.

 

لم يكن أحمد، بعمر يسمح له بملامسة الرصاص ولكنه انتقل إليه حين كان جنينًا في رحم والدته التي كانت تستنشق المادة وتتعرض لها يوميًا بفعل عمل زوجها في تجميع ألواح الرصاص من البطاريات المتهالكة والعمل على إعادة صهرها وبيعها لذوي الاختصاص من الورش والمصانع التي تعمل على إعادة تجديد البطاريات، تقول:"بفعل أزمة الكهرباء وخطر المولدات الكهربائية بالتزامن مع ارتفاع أسعار الوقود لجأ زوجي للعمل في صهر الرصاص الخاص بالبطاريات لإعادة تجديدها" وتردف :أنه يُعاني كولده من زيادة نسبة ترسب الرصاص في دمه لكنه لم يُقلع عن عمله في إعادة تدوير البطاريات التالفة كونه لا يجد مصدر رزق أفضل.

 

ومن جانبه اعتبر د. مازن زقوت استشاري السلامة الصحية والمهنية بوزارة الصحة بغزة، أن عملية انتقال مادة الرصاص وترسبها في دم المرضى، غالبًا ما تتم عبر استنشاق الغازات المتطايرة منه أثناء عملية الصهر، وأيضًا عبر الفم بعد ملامسة الرصاص فتنتقل إليه مع الطعام، مؤكدًا أن تؤثر على ثلاثة أجهزة أساسية في جسم الإنسان هي الجهاز العصبي والجهاز الدموي والجهاز الكلوي، لافتًا منظمة الصحة العالمية تعد مادة الرصاص مادة مسرطنة ما يجعل خطرها أكبر على صحة العمال في تلك المهنة.

 

وتُشير إحصائية صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية بغزة،  إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في قطاع غزة إلى أكثر من 12.600 مواطنًا خلال العام 2014.

 

وبدوره يقول د. محمد أبو ندى رئيس قسم الأعصاب بمستشفى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي :"إن الإجراءات الخاصة بسلامة العامل وحتى السكان المحيطين غير متوافرة في قطاع غزة"، كاشفًا أن غالبية الورش تكون في حواصل صغيرة أسفل المنزل، وأضاف أن ذلك يجعل كافة أفراد الأسرة عرضة للإصابة بتسمم الرصاص وتعاني مخاطره، وبمزيد من التفصيل حدثنا عن أعراض المرض والتي تُصيب – وفق تقديره- كافة الفئات العمرية وتبرز خطورتها على النساء الحوامل والأطفال، مؤكدًا أن المرأة الحامل قد تلد جنينًا ميتًا بينما الأطفال يُعانون من التشنجات العصبية وأوجاع المفاصل وفقر الدم وقد يتطور الأمر إلى أن يكون التسمم بالرصاص سببًا في السرطان، لافتًا إلى أن إحدى الدراسات التي تابعتها وزارة الصحة كشفت عن وجود قرابة 1230 طفلًا يُعانون من أمراض مختلفة ناتجة عن التسمم بالرصاص، منهم 650 طفلًا بحاجة ماسة للعلاج فورًا والذي غالبًا ما يكون أدوية تعمل على ربط مادة الرصاص وإخراجها من الجسم، مشيرًا إلى أن معظم الحالات المصابة بالتسمم وقتها كانت تعيش بالقرب من ورش إعادة تصنيع البطاريات ومحطات الوقود، ودعى الطبيب أبو ندى، الجهات المختصة إلى تنفيذ حملات توعية في الأماكن التي تنتشر فيها تلك الورش تقضي بالتأكيد على ضرورة عدم العبث بمخلفات الرصاص وضرورة التغذية السليم خاصة للأطفال وتزويدهم بكميات مناسبة من الكالسيوم والحديد للوقاية من التسمم بالرصاص.