الحدث- محمد غفري
بلغ عدد التحويلات الطبية الممنوحة للعلاج خارج المستشفيات الحكومية في قطاع غزة 23,972 تحويلة طبية، بحسب التقرير السنوي الصادر عن وزارة الصحة الفلسطينية للعام 2015، في حين لم يصدر حتى اليوم رقم دقيق لهذا العام.
وفي ظل الارتفاع المستمر لعدد المواطنين المغادرين للعلاج خارج قطاع غزة منذ انتهاء العدوان الإسرائيلي على القطاع في العام 2014، حاولت فئة قليلة من هؤلاء المرضى والمرافقين لهم استغلال فترة العلاج التي يقضونها في مستشفيات الضفة الغربية والقدس المحتلة وداخل الخط الأخضر، بالتحايل على المواطنين وامتهان التسول وجمع الأموال، بذريعة الحاجة للعلاج وتكاليف فترة الإقامة، وهو ما دفع بعض المتسولين من أبناء الضفة ليتخذوا من نفس الذرائع أسلوباً جديداً للتسول.
فهل يحق لهؤلاء المواطنين التسول بذريعة تغطية تكاليف العلاج؟ أم أن التحويلة الطبية تغطي تكاليف العلاج طالما صدرت بشكل رسمي؟ وهل تغطي التحويلة الطبية تكاليف الإقامة للمريض والمرافق؟ وماذا لو كانت العائلة حقاً بحاجة إلى المال؟ وما هي الفتوى القانونية للمتسولين؟
أنا جائع بدي أكل
على غير عادته قرر الشاب مجدي الأسمر، أن يذهب هذه المرة مبكراً إلى المسجد قبل آذان المغرب، بعد أن انتهى من كافة أعماله، وكان لديه متسع من الوقت أحب أن يقضيه في تلاوة القرآن في بيت الله.
من منزله القريب وصل مجدي إلى المسجد قبل آذان المغرب بنحو نصف ساعة، فتح باب المسجد وأشعل الآنوار، ليجد داخل المسجد شخصان مجهولا الهوية لم يسبق له أن شاهدهما من قبل في المسجد، وتبين له أنهما من خارج بلدته، والتي هي إحدى قرى شمال مدينة رام الله.
ويروي مجدي لـ"الحدث" تفاصيل ذلك اليوم، "دخلت إلى المسجد وكان بداخله شخص كبير السن أشاهده لأول مرة في حياتي سلمت عليه، وأخبرني أنه جاء من غزة إلى الضفة في رحلة علاج، وهو جائع لا يملك المال كي يشتري الطعام".
وبحسن النية ذهب مجدي إلى البقالة وابتاع منها بعض المؤكولات المعلبة، وقال: " اشتريت من الدكان علبة حمص ومرتديلا وخبز وتونة وأشياء أخرى، وعدت إلى المسجد، وكان قد وصل للتو شخص أخر صغير السن كان في المتوضأ، وتبين أنه برفقة الشخص الأول أو والده كما أخبرني، أحضرت لهما الطعام وباشرا بتناوله".
حان وقت الصلاة بعد أن صاح المؤذن، وجاء المصلون إلى المسجد وأدوا صلاة المغرب، وبعد انقضائها بلحظات سرعان ما وقف الأب الذي يدعي بأنه غزي وبدء بالتمثيل أن ألما شديد في ظهره ولا يستطيع الوقوف إلا بصعوبة، وبنبرة من الحزن الشديد خاطب المصلين وعبر عن حالته: "أنا أجيت من غزة أعالج ابني المريض وما معي أصرف على حالي وأعالج ابني ومعي تقارير طبية ويا ريت تساعدونا".
دهش مجدي من مشهد التمثيل الذي قام به هذا الرجل وابنه أمام المصلين، وكانا قبل لحظات بكامل عافيتهما يتنقلان في مرافق المسجد دون أية أوجاع كما شاهدمها، وتناولا الطعام الذي قدمه لهما بكل نهم.
بعد أن جلسا عند باب المسجد يتوسلان التبرع من المصلين، دخل مجدي في صراع داخلي مع نفسه، هل يخبر المصلين بكذبهما وتمثيلهما حتى لا يتبرعوا لهما؟، أم يسكت لأنه كما قال: "أجر المتبرعين على الله بسبب نيتهم الصادقة"، وفضل الخيار الثاني حتى لا يدخل في أي مشاكل معهما داخل المسجد.
وأكد مجدي (34 عاما)، أنهما جمعا تبرعات بمئات الشواقل خلال دقائق، والسبب الأول تعاطف المصلين إلى حد كبير مع الفقراء، ووضع أهلنا المحاصرين في غزة (في حال كانا فعلاً من غزة)، والسبب الآخر طمع المصلين بالأجر والثواب من الله.
وأردف: "بعد ذلك وصل تكسي حديث فربما ذهبا ليتسولا في مسجد آخر بعد صلاة العشاء"، مضيفاً أن الأمر بات عادة شبه يومية أن يصادف في المسجد متسولين لا يدري هويتهم الحقيقية، يجمعون المال بذريعة "أنا فقير من غزة بحاجة لعلاج ومصاريف إقامة".
معلومات خاطئة
يوم الجمعة بعد انقضاء الصلاة، وقف شخص جديد وعرض حالته بنفس الطريقة على أنه مريض من غزة وقدم للعلاج في الضفة ولايملك المال، فما كان من مراسل "الحدث" إلا أن عرض عليه المساعدة بنشر حالته عبر وسائل الإعلام، وطلب منه رقم هاتفه كي يتواصل معه فيما بعد، بسبب انشغاله في طلب المال من المصلين أثناء خروجهم من المسجد، وبنبرة من التردد وبعثرة الأرقام مراراً، زودنا برقم تبين فيما بعد أنه رقم خطأ، ولم يرد على الاتصال حتى اليوم.
إذاً الأمر بحاجة إلى تحقيق ومكاشفة عن قرب أكثر من ذلك، جاءت الجمعة التالية، وبعد أن قضى المصلون فرضهم، وقف شخص جديد كبير في السن، وكالعادة: "أنا فقير من غزة بحاجة لعلاج ومصاريف إقامة"، وبدء بجمع مئات الشواقل انتظرنا خروج المصلين من المسجد، توجهنا إليه، وعرضنا عليه المساعدة من جديد، بنشر حالته في وسائل الإعلام في حال كان صادقاً.
وخلال مشهد بدا التمثيل فيه واضحاً لنا بدأ هذا الرجل الكهل بالبكاء، وقبل رأس مراسل "الحدث"، وكان على ما يبدو يحاول صرفه بعيدا، إلا أننا أصررنا على مشاهدة هويته الشخصية، وأوراق العلاج كما يدعي، وبعد تردد كبير أمام بعض المتواجدين في المسجد، وفي حالة من الارتجاف الواضحة على أطرافه والتلعثم بالحديث، سلمنا هويته الشخصية، وكان (ف. ت) من بيت لاهيا في قطاع غزة.
طلب مراسل "الحدث" منه تصوير هويته الشخصية، وأوراقه العلاجية إلا أنه سرعان ما قام بإخفائها في جيبه، لملم نقوده من على السجادة الموضوعة أمامه، وخرج سريعاً من المسجد، إلا أننا واصلنا ملاحقته وكان يعرف أننا نسير خلفه، ولم يلتفت للخلف بتاتاً.
بعد اللحاق به، سألناه: "أين تتعلاج يا حج؟"، أجاب: "في رام الله"، سألناه: "ما هو اسم المستشفى؟" أجاب: "المستشفى العربي"، ولا توجد في رام الله مستشفى بهذا الاسم، فالمستشفى العربي التخصصي موجود في نابلس، وفي حال كان يقصد المستشفى الاستشاري العربي التخصصي القريبة من رام الله، فهذه المستشفى لا تستقبل حتى اليوم الحالات المحولة من قبل وزارة الصحة، بحسب المصادر الرسمية.
المستشفى توفر العلاج والإقامة
جمال مسالمة ممرض يعمل في مستشفى المطلع في مدينة القدس المحتلة، وهي من المستشفيات التي تستقبل الحالات المرضية المحولة من غزة للعلاج في القدس، روى شهادته لـ"الحدث" على النحو التالي: "كان يذهب المرافقون للمرضى الغزيين من أول النهار ولا ندري إلى أين، ويعودون آخر الليل إلى المستشفى محملين بالمساعدات".
لا يعرف مسالمة من أين يقوم هؤلاء بجمع هذه المساعدات، إلا أنها تكون في الغالب عبارة عن حرامات ومواد تموينية ومبالغ مالية عينية.
وأشار مسالمة إلى أن المستشفى كانت في السابق توفر غرفة جماعية لنوم المرافقين للمرضى مع كامل الوجبات الغذائية، واليوم ينزلون في فنادق مجاناً، إذاً لا حاجة لهذه المساعدات أثناء إقامتهم في القدس.
متسول محترف
محمد أنيس (26 عاما) تاجر جملة يتجول بسيارته في مختلف مناطق الضفة الغربية، قال لـ"الحدث"، أنه صادف أحد المتسولين مراراً في أكثر من موقع، وبحجج مختلفة في كل مرة.
أوضح أنيس، أنه في أحد المرات صادف شخصين معهما سيارة أجرة عند دوار عين سينيا في الطريق إلى رام الله، وبعد أن أوقفه أحدهما على جانب الطريق، أخبره أنه أسير محرر وأن الشخص الآخر عرض عليه إيصاله لمنزله إلا أن السيارة تعطلت بعد نفاذ الوقود وهم بحاجة لمبلغ من المال كي يملآها بالوقود مجدداً.
وفي نفس المشهد وبنفس الرواية، صادف أنيس ذات الشخص عند مفترق عيون الحرامية في الطريق إلى رام الله، وطلب منه مبلغ من المال كي يملأ خزان الوقود لسيارة من نوع سكودا عليها نمرة تسجيل صفراء.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، التاجر نفسه أكد أنه وجد نفس الشخص المتسول يقف عند باب أحد المساجد في يوم الجمعة، ويحمل أوراقا طبية متذرعاً أنه قادم من غزة للعلاج في الضفة، فما كان منه إلا أن اشتبك معه لفظيا معه، واتهامه بالتسول والتحايل على المواطنين.
وبعد ما أدلى به التاجر محمد أنيس من شهادته، يبدو أن بعض المتسولين حتى ولو لم يكونوا من قطاع غزة اتخذوا من جملة "أنا فقير من غزة بحاجة لعلاج ومصاريف إقامة" حجة لهم كي يتحايلوا على المواطنين.
هل تغطي وزارة الصحة تكالف العلاج للمرضى الغزيين؟
مديرة دائرة شراء الخدمة في وزارة الصحة الفلسطينية د. أميرة الهندي، أكدت أن قانون التأمين الصحي ينص على تغطية تكاليف علاج المريض الذي تصدر له تحويلة طبية بحسب الإجراء العلاجي، إضافة إلى إقامته داخل المستشفى.
وأوضحت الهندي، أن إصدار تحويلة العلاج للمرضى في غزة، يعتمد على أوراق نموذج التحويل التي ترسل إلينا، والتقارير الملحقه بها، ويتم توقيعها من قبل لجنة خاصة في غزة، وهذه اللجنة هي التي تقر بأن هذه الحالة تحتاج إلى تحويل للعلاج خارج القطاع بحسب النظام.
وأضافت، بعد ذلك يتم التنسيق حول المستشفى الملائم له، ومن ثم تذهب الأوراق للتنسيق من أجل إصدار التصاريح، والفترة التي يقضيها المريض للعلاج تختلف من مريض لآخر بحسب الحالة المرضية، وأحيانا يعود المريض للمراجعة، وأحيانا يبقى المريض في الضفة خلال فترة العلاج والمراجعات.
وبحسب الهندي، ففي العادة يكون هناك مرافق واحد مع المريض، ويتم التنسيق للمريض والمرافق، وفي حال رفض الجانب الإسرائيلي المرافق، يتم التنسيق لمرافق ثاني.
وحول تكاليف إقامة المرافق للمريض قالت الهندي في تصريح خاص لـ"الحدث": "لا توجد تغطية لإقامته بحسب قانون التأمين الصحي، ولكن قامت بعض المستشفيات التي يحتاج المريض لقضاء فترة طويلة داخلها مثل علاج أمراض الورم، بحل هذه الإشكالية وتوفير مكان لإقامة المرافق".
وأضافت الهندي، أنه لا توجد قيود على تنقل المريض أو مرافقه أثناء العلاج داخل الضفة الغربية، ولكن عليه قيود في داخل الخط الأخضر.
دور وزارة التنمية الاجتماعية
وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية محمد أبو حميد، قال إن الوزارة تقدم مساعدات مالية طارئة بقيمة 7 مليون شيقل سنوياً، للقضايا الاجتماعية والحالات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة المستحقة لهذه المساعدات، وتتراوح قيمة المساعدة من 1500- 2000 شيقل لكل عائلة.
وأكد أبو حميد في حوار خاص مع "الحدث"، أن الوزارة تقدم للمواطنين القادمين للعلاج من قطاع غزة، مساعدة مالية منها بدل مواصلات وإقامة خلال فترة العلاج، وذلك بحسب الإجراءات المتبعة والقانون، وبعد البحث والتحري عن حالتهم الاجتماعية ومستوى معيشتهم، لأن هناك أسرا ليست بحاجة لهذه المساعدة.
وأوضح أبو حميد: "عندما يصل إلينا طلب مساعدة مالية، نرسل هذه الطلبات إلى الوزارة في غزة، ونأخذ برأيها بعد إجراء بحث حول أوضاع هذه الأسر، حتى نتمكن من تقديم المساعدة".
لذلك دعا وكيل وزارة التنمية الاجتماعية، هذه الحالات الفقيرة أن تتقدم بطلب مساعدة يتضمن رقم الهاتف، وصورة عن الهوية والتحويلة الطبية، إلى الوزارة حتى تقوم بإجراء البحث بشكل سريع، ومن ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة، من أجل تقديم المساعدة.
وحول فترة الصرف المالي بعد تقديم طلب المساعدة، أوضح أن الصرف قد يتأخر قليلاً بسبب الإجراءات المالية إلى حد شهر، ولكن في حال توفرت السيولة المالية يتم الصرف خلال أسبوع.
لذلك استهجن أبو حميد قيام البعض بالتسول بذريعة الحاجة للمساعدة المالي، مضيفاً: "نحن لا نقبل بذلك ونرفضه تماماً، ونهيب بالجميع التوجه إلى وزارة التنمية الاجتماعية بدل التسول لأنها المسؤولة عنهم".
مصير المتسولين بحسب القانون
الناطق باسم الشرطة الفلسطينية لؤي ارزيقات، قال إن الشرطة تتعامل مع التسول كجريمة يعاقب عليها القانون، لأن التسول ممنوع من الناحية القانونية، ومرفوض من الناحية الأخلاقية، وتقاليد المجتمع ترفض هذه التصرفات والسلوكيات.
وأكد ارزيقات لـ"الحدث"، أن هناك من يمتهن التسول كمهنة، لذلك أي متسول في الشارع معرض لإلقاء القبض عليه وإحضراه من قبل الشرطة، وتقديمه للعدالة.
وأوضح الناطق الرسمي، أن الشرطة سبق وقبضت هذا العام في مدينة دورا على شخص يدعي أنه فقير ويقوم بالتسول ورجله مقطوعة، تبين لنا بعد أن قام الشرطي برفعه بأن رجله سليمة، وبعد التحقيق اعترف بأنه يمتهن التسول، ولديه سيارة سكودا موديل 2016.
وفي بيت لحم ضبطت الشرطة خلية تسول مكونة من 5 أشخاص، 4 نساء ورجل واحد يدير العصابة.
وأكد ارزيقات، أن عدد قضايا التسول التي تعاملت معها الشرطة منذ بداية العام وحتى الشهر الماضي كانت 26 حالة قضية تسول، وفي العام الماضي كانت لدى الشرطة 52 قضية.
لذلك دعا ارزيقات المواطنين إلى عدم التعاطي مع المتسولين إطلاقاً وضرورة إبلاغ الشرطة عن أي متسول، لأن هناك جهات تعنى بالفقراء والعائلات المحتاجة مثل وزارة التنمية الاجتماعية، والجمعيات الخيرية المرخصة بشكل رسمي؛ لمتابعة هذه الأمور.
وحول قضية جمع الأموال من المساجد كما يفعل المتسولون المذكورون أعلاه، أكد ارزيقات أن جمع الأموال في المساجد يحتاج إلى الموافقة من قبل العديد من الجهات، والتي تتمثل بوزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة الداخلية، ووزارة الأوقاف، ويجب أن يتم إشعار الإمام قبل جمع الأموال، والإمام يقوم بإشعار المصلين بأن هناك أشخاصا يجمعون التبرعات لصالح مسجد أو مؤسسة معنية، أما التسول فهو ممنوع.
في سياق ما ذكر، نستنج أن وزارة الصحة الفلسطينية تغطي تكاليف العلاج لمن تصدر لهم تحويلة طبية، فلا يحق لهم جمع الأموال بذريعة تغطية العلاج، كذلك تغطي وزارة التنمية الاجتماعية تكاليف الإقامة والمواصلات للأسر الفقيرة خلال فترة العلاج، بعد إجراءات البحث والتحري، وتحرم منها العائلات ميسورة الحال.
وبين ما تقوم به المؤسسات الرسمية من دورها بحسب القانون، وما يتذرع به المتسولون، جاء القانون ليضع حداً لظاهرة التسول مهما كانت الأسباب والدوافع.
وبالإشارة إلى عشرات الآلاف من التحويلات الطبية التي تصدر سنوياً للمواطنين المرضى في قطاع غزة، نؤكد أن انتشار بعض الحالات المتسولة هنا وهناك لا تمثل قطاع غزة.