الثلاثاء  14 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"عن السِّياسة والسِّياسة الدَّوليَّة، والتفكير بذهنيَّةِ المؤامرة" بقلم: رائد دحبور

2016-12-20 12:27:27 AM
رائد دحبور

تملأُ النِّقاشات السِّياسيَّة فضاءَنا؛ وما أنْ يتناولُ أحدُ أطرافِ النِّقاش مسألة ما يجري في المنطقَةِ على أساسِ كونِه مُخطَّطاً يجري تنفيذه من قبل بعض القوى الدَّوليَّة لصالح خدمة أهدافها الاستراتيجيَّة؛ حتَّى يُعاجِلُ الطّرف المقابل إلى اتِّهامِه بالانحياز إلى التَّفكير بمنطق ذهنيَّة المؤامرة، كَتُهْمَةٍ جاهزةٍ ناجِزَة، وكأداةٍ من أدواتِ الدِّفاع التِّلقائي عن وجهةِ نظر من يُوارِبون تجاه رؤية الحقائق السِّياسيَّة على قاعدة التأصيل المنهجي، وهذه الأداة يستخدِمها فريقٌ من المثقَّفين العرب عادةً كدليلٍ على التَّحرُّر من نمطيَّة التَّفكير والرُّؤية الرُّهابيَّة تجاه وجود المؤامرة!! والأمر، بتقديري المتواضع، ليس كذلك أبداً؛ بل هو إمعانٌ في التَّعميةِ على رؤية الحقائق الصَّادمة!!

 

فالسِّياسةُ كمهارَةٍ إداريَّةٍ تَتضَمَّن وظيفة التَّخطيط، والتَّخطيط نشاطٌ نقوم به في سلوكنا اليومي تجاه كل ما نفعل وإنْ بدا الأمر تلقائيَّاً في ظاهره، والسِّياسة تنطوي في الأساس على تَوَفِّرِ النِّيَّة والدَّافع والهدف من وراءِ ممارستها.

 

ربَّما لا يعوزُنا الأمرُ لَسَوْقِ كثير من التَّعريفات الَّتي تتناول السِّياسة كَعلْمٍ وكنظريَّةٍ وممارسةٍ وسلوك. وأكتَفي هنا باجتراحِ واستنباطِ هذا التَّعريف الشَّامل، رُبما، لها: فهي، في تقديري، علمُ ومهارَةُ إدارة شؤون الأفراد والشُّؤون العامَّة للدَّولَةِ والمجتمع داخلِيَّاً وخارِجيَّاً مِنْ قِبَلَ السُّلطة وبُناها ومؤسَّساتها وهيئاتِها ومن يُمثِّلُها، أو يَشارِكُها في ذلك، بأيِّ صورَةٍ من الصُّوَرِ، وحتَّى لو كان ذلك من قبيل التأثير في مسارِها عبر ممارسة المعارضة. أليسَ كذلك؟

 

إذا كان الأمرُ كذلك، وهو كذلك في ظَنِّي،فهي، أيْ السِّياسة وتطبيقاتها، على مساسٍ إِذاً بعلم وبنظريَّات وبمنظومات وبأنشطةِ الإدارةِ العامَّة لشؤون المُجْتَمع، اجتماعيَّاً وتربويِّاً وأخلاقيِّاً وثقافيَّاً واقتصاديَّاً، وداخليَّاً وخارِجيَّاً.

وهي إِذاً على صِلَةٍ وثيقَةٍ بعلوم وبنظريَّات فروع علم الإدارة العامَّة، ووظائف الإدارة الأساسيَّة الَّتي هي على التَّوالي: التَّخطيط والتَّنظيم والتَّوجيه والتَّنسيق والرَّقابة، ووظائفها الفرعيَّة الَّتي هي: التَّوظيف والتَّمويل والتَّطوير،ذلك العلم وتلك النَّظريَّات الحاذِقةِ الَّتي كانت وما زالتْ تُمَثِّلُ أَساساً نظريَّاً وواقِعيَّاً لانبثاقِ واستمرارِ ما رأيناهُ في السَّابق وما نراه اليوم لدى ذلك العملاق الاقتصادي والتِّكنولوجي والصِّناعي والعسكري والسِّياسي المّتَمثِّلِ بالولايات المتِّحدة الأمريكيَّةِ، على سبيل المثال، وبغيرها من نماذج كألمانيا واليابان. وهي أمثِلَةٌ لا يمكنُ إقْصَاؤُهَا إذا كنَّا نريد اتِّباع منهج القياس العلمي والواقعي والعملي والمنطقي والتَّاريخي في الحكم على التَّجارب السِّياسيَّة للمجتمعات والدُّول ومُؤَدَّياتِ ونتائج تلك التَّجارب.

 

 

فنَجِدُ أنَّ علْمَ الإدارةِ العامَّة ونظرياته، الخاضعة للتطوير والتَّحديث بشكلٍ مستمر في الولايات المُتَّحدة تحديداً على نحوٍ رياديٍّ مُتَفَوِّق، وفي اليابان والصِّين وفي أوروبا عموماً، وفروع ذلك العلم إجمالاً بما في ذلك نظريات إدارة التَّنافس محليَّاَ ودوليَّاً واستراتيجيَّاً، الَّتي تُتَّخَذُ كَدَالَّةٍ أساسيَّةٍ في صياغةِ الخطط وإدارة السِّياسات؛ نجدها ما زالت تحظَى بالأهميَّة القصوى كفرْعٍ معرفيٍّ أساسيٍ من فروع العلوم الإنسانيَّة أكاديميَّاً وتطبيقيَّاً، سواءً أَكانَ ذلك مُتَّصِلاً بالشَّرِكات وبأنشطة المؤسسات الاقتصادية في القطاع الخاص، أو أكانَ مُتَّصِلَاً بمؤسسات الخدمات والرِّعاية الاجتماعيَّة والصحيَّة لدى القطاع العام.أو تلك الأنشطةِ المُتَّصِلَةِ بالتَّخطيط والإدارة الإستراتيجيَّةِ على مستوى الإدارات الحكوميَّة الفدراليَّة الدَّاخليَّة، في الولايات المتَّحدة، أو على مستوى السِّياسة الخارجيَّة والتأثير الفعَّال في مجريات السِّياسة الدَّوليَّة.

 

وكذلك ما زال مُنَظِّرِو ذلك العلم ورُوَّاده ابتداءً بـ فريدريك تايلور بداية القرن العشرين وليس انتهاءً بـ مايكل بورْتَر، صاحب أشهر نظريات التَّنافس استراتيجيَّاً، ابتداءً من سبعينيَّات القرن العشرين وحتَّى الآنْ؛ يَحْظَوْنَ وتحظى نظريَّاتهم ورؤاهُم وأدوارهم، في الولايات المتَّحِدَةِ وفي غير مكانٍ من العالم التكنولوجي والصِّناعي، بكلِّ الإهتمام على كافَّة المستويات الأكاديميَّة والتَّطبيقيَّة والإداريَّة، فيما نرى أنَّ ذلك العلم ونظريَّاته وتطبيقاته، لا تحظى بذلك الاهتمام لدى دول العالم الثَّالث على سبيل المثال، وقد كان ذلك وباستمرار مَدْعاةً للتَّخلُّف عن اللَّحاقِ بَرَكبِ التَّطور التكنولوجي والاقتصادي لدى دول العالم المُتَقَدِّم !!

 

كُلُّ ما تَقَدَمَ يَنْقُلُنا للحديثِ عن دورِ الوظيفَةِ الأولى والأساسيَّة للإدارة، ألا وهي التَّخطيط وما يتبعها من وظائف، وتأثيرها في صياغةِ شكل النَّشاط السِّياسي للمجتمعات والدُّول وتحديد مدى فاعِلِيَّتِه وهادِفِيَّتِه، ومدى قدرته على الاضْطِلاع بمهام خوض الصِّراعات حول تحقيق مصالح الدَّولة والمجتمع وإدارة ذلك الصِّراع مع القوى الأخرى، وكذلك الاضْطِلاع بمهمَّة التَّنافس وإدارة التَّنافس مع تلك القوى الخارجيَّة حول تحقيق تلك المصالح بِشَكْلٍ منهجيٍّ راشِدٍ غير انفعالِيٍّ أو عشوائيٍّ، وهذا ما يمتازُ به بالإجمال سلوك القوى الدَّوليَّة الفاعلة. فهي تلجأ في الغالب إلى إمضاءِ سياساتِها الصِّراعيَّة الاحتداميَّة أو التَّنافسيَّة على ضوءِ أسلوب نظريَّة الإدارة بالأهداف، بمعنى جعل الأهداف المشتركة للدولة والمجتمع دافِعاً ومِعْياراً لرسم السِّياسات وممارَسَتِها، وكذلك على ضوءِ أسلوب الإدارة استراتيجيَّاً، بمعنى جعل السَّعي إلى تحقيق الأهداف الفرعيَّة والجزئيَّة دائماً في خدمة تحقيق الهدف الاستراتيجي بعيد المدى، وهذا بالتأكيد ما يدفع بالسِّياسات خارج مَدَيَاتِ العشوائيَّة والارتجال، وهذا بالضَّبط ما يجعل من أهميَّة وظائف التَّخطيط والتَّنظيم والتَّوجيه والتَّنسيق وظائف أساسيَّة أيضاً في مضمار النَّشاط والعمل السِّياسي للدُّول وللأحزاب السِّياسيَّة كذلك، وهو ما يمكننا التَّعبير عنه بمفهوم البرامج السِّياسيَّة على مستوى الأحزاب والدُّول.

 

هذه البرامج إذاً، الَّتي يجري تنفيذها في منطقتنا الآن، مُخطَّطة، مُنَظَّمة، مُوَجَّهة، مُنَسَّقة (تآمُرِيَّة بمعنىً آخر عندما يتصِلُ الأمر بالتَّنسيق بين الدُّول والأطراف الأخرى المستفيدة من مَنْحَىً ما لاتِّجاه الأحداث محليَّاً أو إقليميَّاً أو دوليَّاً) ويخضع تنفيذها للرَّقابة والتَّقييم، وهي تحتاج لإمضائِها إلى توظيف وتمويل؛ هذا إذا افتَرَضْنا أنَّ سلوكَ الدَّول، وخاصَّةً الكبرى منها، هو سلوكٌ إدارِيٌّ في الأساس، وهو كذلك بطبيعة الحال، فيغدو أمرُ الحديث إِذاً عن نشاطاتِها وسياساتِها خارج نطاقِ كونِها سياساتٍ مُعدَّةٍ سَلَفاً، ولا تأتي في الغالب كردودِ أفعال إلَّا فيما ندر، كمحاوَلَةٍ للتفكيرِ بمنطق الذِّهنيَّة الهروبيَّة التَّبريريَّة الاعتباطيَّة أو الإنكاريَّة لحقائق السِّياسة والجغرافيا والثَّقافة والوقائع والتَّاريخ وما تفرضه ضرورات المصالح والعلائق المنسجمة أو المتناقضة؛ بحيث يأتي ذلك تسويغيَّاً كبديلٍ عن الرَّميِ بتهمةِ الانحيازِ لذهنيَّة التفكير بمنطق المؤامرة.