السبت  27 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الطريق إلى رام الله ...حالة سكر

2017-02-28 06:45:43 AM
الطريق إلى رام الله ...حالة سكر
الطريق إلى رام الله (أرشيفية- تصوير: الحدث 2017)

 

 

الحدث- علاء صبيحات

 

عاش ثلاثة حروبٍ وانتفاضتين وشارك منزله مع الكثيرين واقتسم صمته ورغيف خبزه مع إخوته، تعرّف على كثير من أصداقائه خلال الحروب، ففي كل غارة كان يستضيف عابر سبيل لتتطور علاقتهما فيما بعد ثم ليصبح صديقا له مع الأيام، يمكن القول أن عدد أصدقائه بعدد الغارات التي قُصِفت فيها غزة.

 

لا صمت ولا انكسار يكفيان ليمزقا ياقة صبره الطويل مُغلَّقَةَ الزر الأخير لتخنُقَه بأناقة، فكان لزاما على (القِدْر) أن لا يجلس إلا على ثلاثة أرجل واقتحمت البطالة حياته لتُشَظِّيَ مخّْه من نخرِ الأفكار الصامتة على وقع وتر الحياة رزينة البؤس.

 

مؤلم ذلك القدَر بحجم إبنة الجَبل أو حتى بحجم جبلٍ أصمّ يحيط بصدرك الذي لم يعد يحتمل، أن لا تجد وإن وجدت لن يكفي، فتبحث عن الهناك وأنت لا تملك الهُنا، وتبيع سنيّ عمرك المرحة وتتناسى حبك الأزليّ لوالدة برائحة الربيع.

 

ذاك الربيع القاسي الذي رآه في بعض رام الله فوصفه يوم تعرّفتُ به " يبهج عينك خضاره ويملي عرش قلبك جماله فهو متشعب البدايات ولا نهاية حقيقة له، لا تدري كيف تحبه فهو أولاً مُنادا الصيف وثانيا ألوانه أنثى، وثالثا قلبه حنون لا يملئه الجميع من البعض الزائرين" صَمَتَ هنا صامد ليقول فيما بعد "أراه أمي".

 

هو تارة يرغّبني بالعودة إلى غزة وتلك مصيبة لأنني لن أخرج بعدها أبدا، وأخرى يحببّنُي في البقاء وفيها المصيبة أعظم.

 

"لا شيء كالوطن يا صديقي"، قال ذات مرّة، "ووطن الرجل أنثاه وبعض صخور عقيمة، لسانها مبتور ولا تحكي من تاريخها شيئا إلا إذا اتحدت وتراتبت وفق مصفوفة أحادية اللون عديدة اللهجات كثيرة اللغات، تُبنى على هيئة جدران، جدران يملؤها عبق "غلاية" القهوة وصوت الغسالة منحوسة المحرك وتَقّشُّف الفطور الملَكي في صباح جمعة يبدأها خطيب المسجد الذي فقد مأذنته قبل حرب أو حربين لا أذكر، بجملة "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه...."، رغم روتينيتها فإن لها رونق مزركش، هذا هو الوطن يا صديقي".

 

غزة مليئة بالتناقضات فمثلا منبّه الإفاقة من النوم يكون صوت غسّالة الثياب فعندما تعمل هي فإن التوقيت غالبا يكون بين الخامسة والسادسة مساءاً ففي هذا الوقت تصل الكهرباء للمنزل، والغسالة تكون متأهبة للعمل حالما يصلها التيار في تدفق خاص يختلف عن تدفق الكهرباء في الأسلاك خارج غزة.

 

من محاسن انقطاع التيار الكهربائي هو أنك تعيش مع أهلك تفاصيلَهم لا شيء يُلهيك فلا كهرباء ولا عمل، والحروب متتالية فلا أمان لذا لن تخرج، والحصار إبن العشرة سنوات يمنعك من الرحيل، فلكثرة اللاءات تلك يجعلك التيار الكهربائي تتعرف على أهلك.

 

ربيعُ غزةَ صيفَها في بحرها، حتى نشرة أحوال الطقس ترنمت بصيغ باهتة ومعان بعيدة عن المقصود، "البحر في غزة خفيف ارتفاع الحب والرياح شمالية وشمالية شرقية تحمل معها سرب طيران وبعض الصواريخ بحيث تبقى الفرصة مهيئة لسقوط زخاتٍ من القنابل الفسفورية والعنقودية، يرجى الحذر من التواجد في مناطق الشبهات أو بالقرب من المسلحين أو في أي مكان- فالغزيّ عليه أن لا يتواجد- و الضّباب الناجم عن دخان القصف سيخفّض نسبة الرؤية ويرفع نسبة الرطوبة لتصبح ملموسة جداً، الضغط الجوي أقل بكثير من الضغط النفسيِّ ودرجة الحرارة لن تتعدى معدلها اليومي ولا السنوي ولا النفسي فلا جديد على بحر غزة.

 

وسوق السمك تملؤه الأسماك الصغيرة ورائحته يغلب عليها الشقاء وريح الحصار فهناك إن كنت تمتلك فكرة للكسب دلّلها بحضنك واحتفظ بها لأنها ثمينة منذ الآن.

 

يفرّغ صامد كل ذلك وهو يتكئ على جدار بارتفاع المتر تقريبا، في وسط "رام الله التحتا"، يظنه الجميع سكرانا، وهو من شدة الوجد يحكي، يتحدّث عن تناقض آخر، عن الضفيّ عندما يذكر "غزة"  يقصد بها "قطاع غزة"، أما "الغزيُّ" الساكن في "رام الله" عندما يقول "رام الله" يقصد "رام الله المدينة" ولا يقصد الضفة الغربية الغريبة.

 

يقصد برام الله المدينة التي حاصرته الأوراق فيها، فالغزيُّ لا يخرج من حدود مدينته ومن يرى في انتقاله للضِفّةِ خروجا من الحصار إنما هو انتقل من حصار فعلي لحصار خفيّ، الأول يحاصره فيه العالم أجمع، وفي الثاني تحاصره التصاريح وأذونات المرور ومكان الإقامة ومناطق (A,B,C)، وحواجز الاحتلال التي إن قُبِضَ عليه على إحداها سيخترق خط الهدنة بين سلامين وأكثر من حرب، وهذا أقل ما يقال.

 

يتبع....