الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الكابوس/ بقلم: محمد خليل

2017-03-22 04:10:05 PM
 الكابوس/ بقلم: محمد خليل
محمد خليل

 

كنتُ وحدي عندما فجّرَت ليل المدينة أصوات مختلطة، أصخت السّمع، الشوارع خالية من المارّة والسّيارات، ركضت صوب مركز الصّوت، صعدت بضع درجات انسرب فوقها سائلٌ أحمر، وقفت في طرف ساحة تعوّد أن ينام فيها حرّاس المدينة من السّكارى والمشّردين، سمعت أنينًا، سِرت بخطى حذرة حتى وصلت إلى وسط السّاحة، أذهلني مشهد النّاس المتكومين فوق بعضهم، رحت أبحث عن سبب لهذه المجزرة،  تقدمت أكثر، لمحت رجلًا في زاوية السّاحة واقفًا، لم أتبيّن ملامح وجهه، لكنّي لاحظت ما يشبه السّيف في يده، أسرعت إليه، تلاشى كفقاعة، عدت إلى النّاس المتكومين، قلَبت أوّلهم،  نفر الدّم من عينيه، انتفضت وتراجعت إلى الخلف، قلبت جسدًا آخر فتدلّت الأحشاء، جثث متراصّة، لا بدّ من نقل الخبر إلى الشرطة،  قلت بيني وبين نفسي وقد تملكتني الحيرة والرّعب معًا.

خطوت أولى الخطوات باتجاه مخفر الشرطة،  لكنّي توقفت إثر سماعي أصواتًا مختلطة تقترب من السّاحة، هرولت صوبها، بانت ظلال تحثّ الخطى باتجاه السّاحة، ولمّا صاروا على مرمى بصري، رأيت مجموعة من الكلاب مربوطة بسلاسل حديديّة بأيدي الفوج الأوّل من القادمين، صاح أحدهم :                                                       

 

              - هو الفاعل!

 

تجمّدت في مكاني،  نبحت كلابهم،  صاح آخر:

 

           - أيّها الجزّار ! 

 

          - كنتُ أسير في الشّارع فسمعت جلبة، ولمّا وصلت رأيت ما ترون

         

          - كنتَ تراقب السّاحة منذ زمن، نحن نعرف كلّ شيء

        

 

                             -   أنا !!!

 

زحف الناس صوبي .. تراجعت إلى الخلف .. التصقت بالجثث .. توقّف الجميع، عندما سمعوا قهقهة آتية من خلف الصّفوف المتراصّة .. شقّ الصّفوف شبح رجل.. توجه نحوي،  ولمّا صار قريبًا مني قهقه بصوت مرتفع ثم أخرج سوطًا من ساق جزمته ... لوّح به في الهواء ... صحتُ بأعلى صوتي:

 

                        -  هو الفاعل

 

هوى السّوط على جلدي ... تلوّيت .. قهقه الجميع بصوت مرتفع .. تقدّم  أحدهم .. رفع يده .. كتم الجميع  أصواتهم .. تقدّم نحوي .. دار حولي عدّة دورات ثم التقطني من ياقة سترتي.

 

                   - أنت مجنون بالتأكيد!!

 

                   - إنّه هو. كان واقفًا في زاوية السّاحة. كان يرتدي القميص نفسه.                             

 

            صاح الجميع بصوت واحد:

                     

                   - مجنون... مجنون 

                     

قبضوا عليّ بسهولة .. صفّدوني ثم دفعوني باتجاه الرّجل... مدّ يده   أسفل سترتي فأخرج سيفًا تراكم على نصله دم متخثّر... أصبت بالدّوار.

 

(قاعة السينما تضج بالمشاهدين والانسجام بادٍ على ملامح المتفرجين الّذين يتابعون البطل وهو يحاول إغواء امرأة بالتجسس لصالحه،  وعندما رفضتْ، أخرج من ساق جزمته سيفًا ملطّخًا بالدّم، مرّره فوق عنقها الأبيض،  وأمام خوفها من الذّبح وافقت.

 

استهجنتُ هذا السّلوك،  وهجست في داخلي أنّ هذا الأسلوب حقير ولا يمتّ إلى الإنسانية بصلة ... لم أكد أنهي هاجسي حتى برز إليّ ... اهتزّت الشّاشة أولًا ثم سحل من بين الألوان ومشى باتجاهي، كان يلفّ على قبضة يده سوطًا أسود، أخفيت رأسي وراء رجل يجلس في المقعد أمامي.. داس فوق الجميع، التقطني من شعري فوقفت مكرهًا.. طوّق عنقي بيديه .. أحسست أنَ روحي ستُزهَق الآن.. استنجدت بالجالسين .. أُضيئت الأنوار الكاشفة وفتّشوا القاعة ... ولمّا لم يجدوا أحدًا بالأوصاف التي سردتها، شتموني بما شاؤوا وطردوني.)                                                       

 

حاولت الإنقضاض على الرّجل، إلا أنّ نباح الكلاب جمّدني في مكاني، تفحّصت وجهه، فأيقنت أنّه هو الذي سحل من بين الألوان، وأنّه هو الذي كان واقفًا في زاوية السّاحة، وأنّه هو الذي يطاردني باستمرار .. صحت في النّاس:

 

                        - هو الفاعل ؟
علت الأصوات:
                     - مجنون... مجنون

 

كيف لي أنْ أُقنع هذا الجمع الغفير من النّاس بأنّه هو الفاعل، وأنّني رأيته واقفًا في زاوية السّاحة وسيفه مضرّج بالدّماء، وأنّه هو الذي بات يرصد حركاتي باستمرار.

 

(أُحسّ بوقع خطواته في الصّباح بعد خروجي من البيت، ألتفتُ خلفي فأراه، من أين أتى؟ لا أدري ... الشّخص نفسه دائمًا .. القميص نفسه

دائمًا .. مرّة حاولت إيقافه، وقف قبالتي وقد شمّر قميصه عن ساعديه فبان شعرٌ كالزّغب،  قلت :

                       

                   - لماذا تلاحقني ؟

        

وأكّدتُ له أنَ أمره لا يخفى عليّ، وأنّه لن يستطيع تهديدي كما فعل مع المرأة.. هزّ رأسه .. مشى بضع خطوات ثم انعطف إلى زقاق ضيّق، تابعته حتى اختفى، ثم تابعت سيري في الشّارع العام، وعند أوّل منعطف رأيته واقفًا، أصابتني الدّهشة، فأنا أعرف تمامًا أنّ الزّقاق الذي دخله لا يوصل إلى هذا المنعطف.. أهملته وتابعت طريقي .. لوّحت لسّيارة أجرة .. اكتشفتُ بعد أن دلفت إلى داخلها، أنّه هو الذي يقودها، وأمام باب الشّركة التي أعمل فيها توقَف، هبطت من السّيارة والأسئلة لا تفارق صدري، كدت أصاب بالغثيان وهو يفتح لي باب الشركة.. التقطته من ذراعه

 

             -   لماذا تلاحقني ؟.

                                  

            - .....   .......     

 

قلت للحارس الواقف إلى جوار الباب:

 

          -   لا تدعه يدخل                           

 

                                                                  قال الحارس مستنكرًا

        

        -  مَن ؟ !

 

دخلتُ إلى مبنى الشّركة .. جلست إلى مكتبي .. طلبت فنجانًا من القهوة .. قدّم هو لي فنجان القهوة وانسحب، احتويته وهو يدير لي ظهره شاقَا طريقه بين الطاولات.

 

رفعتُ فنجان القهوة، ارتعبت، كان لون القهوة أحمر قانيًا، والرجل متربعًا في السائل و يقهقه بصوت مسموع، التفتُّ إلى زميلي في المكتب، لم ألاحظ شيئًاغير عادي، أطبقت يدي على فوّهة الفنجان في محاولة لخنقه والتّخلص منه، مضت خمس دقائق.. عشر دقائق.. ولمّا رفعت يدي لم أرَ شيئًا.. حرّكت السّائل بقلم كان في يدي.. لا أثر للرّجل .. ابتسمتُ ومددت ساقيّ في الفسحة تحت الطاولة، لم أكد أعيد ساقيّ إلى مكانهما حتى ربتت على كتفي يد.. التفتٌّ، كان الرّجل نفسه وقد تلوّن وجهه بالأحمر.. صرخت بأعلى صوتي .. تجمهر الزملاء حولي، استعرضت وجوههم،  كانت وجوههم تُشبه وجه الرّجل ويرتدون جميعًا القميص نفسه .. قفزتُ فوق الطاولات وركضت على غير هدًى )

 

                    -   هو الفاعل ... هو الفاعل

 

وبعصبيّة ظاهرة انقضّ الرّجل على عنقي .. ضغط بكلّ قوّته .. نفر الدّم من بين أسنانه .. خرج صوتي محشرجًا

 

                      -  هو الفاعل

 

تدلّى لساني .. سبحت في عرقي .. ضغط الرّجل أكثر

 

                        -   أنت الفاعل

 

احمرّت عيناه .. انتفخت أوداجه ... صار لساني أطول .. صرخت بصوت مخنوق

 

                       -   أنت الفاعل ... أنت الفاعل

 

قالت أمي وهي تحمل كأسًا من الماء:

 

           -   اشرب قليلًا واستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم                                   

أسندت ظهري إلى الجدار الإسمنتيّ .. مسحتُ بكف يدي ما تجمّع من  العرق فوق جبيني.. احتويت وجه أمي الذي لفّه الحزن والقلق في آن:

 

                           -   هل قلتُ شيئًا ؟

 

                           -   لم أفهم شيئًا

 

 

أحضرتْ أمي قليلًا من الفحم وأحرقته ثم رمت على الفحم ما تيسّر من البخور، وطلبتْ منّي أن أقفز فوق النّار سبع مرّات ففعلت،  أسندتُ المخدّة إلى الجدار ... أرخيت رأسي فوقها ... تمتمتُ وجثثُ القتلى لا تفارق مخيلتي .. هو القاتل، لكنّهم لا يصدقونني.. سيقتلهم واحدًا واحدًا.. سرّحت بصري صوب النافذة .. أشعلت لفافة تبغ .. أشعة القمر تبدّد ظلمة الليل .. شعرت بالجوع فقمت إلى المطبخ،  ولمّا عدت لاحظت شيئًا غير عادي قرب النافذة،  أصخت السّمع ... قرقعة بسطار .. انبطحت أرضًا وراقبت حركة الشّيء.. ما هذا ؟ ليس له شكل ثابت .. مرّةً يتشكَل ليأخذ رأس بقرة.. ومرّةً يتشكّل ليأخذ شكل غصن شجرة.. وأخرى شكل مسخ ... هو القاتل .. هو الذي كان يقف في زاوية  السّاحة .. وهو الذي تربّع في الفنجان .. وهو الذي سحل من بين الألوان ... فتّشت عن شيء أتسلّح به .. لم أجد سوى عصا كانت أمي تستعملها لتعسيف البيت من العناكب .. زحفت باتجاه الباب .. فتحته بهدوء .. تسللت حتى صرت قريبًا منه .. رفعت العصا في الفضاء وهويت بها، ثم أسرعت عائدًا إلى الغرفة .. أغلقت الباب جيدًا وتمترستُ خلفه.